[المستثنى بإلا وأحواله، وحكم كل منها]
  القوم إلّا حمارا»، ومنه في أحد القولين(١) قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ}(٢).
  فلو كانت المسألة بحالها، ولكنّ الكلام السابق غير موجب؛ فلا يخلو: إما أن يكون الاستثناء متصلا، أو منقطعا.
  فإن كان متصلا جاز في المستثنى وجهان:
  أحدهما: أن يجعل تابعا للمستثنى منه، على أنه بدل منه بدل بعض من كل عند البصريين، أو عطف نسق عند الكوفيين(٣).
= «قليل» وذلك يدل على أن المستثنى من كلام تام موجب يجوز فيه وجهان كما يجوز في المستثنى من كلام منفي؟
فالجواب: أن نقرر لك أن المستثنى من كلام تام موجب لا يجوز فيه إلا وجه واحد وهو النصب، وأما هذه القراءة فإنها محمولة على أن الكلام السابق منفي، وكأن القارئ قدر الكلام: فلم يكونوا مني إلا قليل منهم، لأنه وجد قبل هذا الاستثناء قوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي.}
(١) اختلف العلماء في إبليس لعنه اللّه: أهو من جنس الملائكة أم من جنس آخر؟ فذهب قوم إلى أنه من جنس الملائكة، واستدلوا على ذلك بشيئين؛ الأول: أحاديث وردت في هذا المعنى تدل عندهم على أنه من جنسهم، والثاني: استثناؤه من الملائكة في كثير من آيات الكتاب العزيز، والأصل في الاستثناء أن يكون متصلا بأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وذهب قوم آخرون إلى أن إبليس ليس من جنس الملائكة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى من الآية ٥ من سورة الكهف: {إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وردوا الأحاديث التي استند إليها الفريق الأول أو دلالتها، وردوا دعواهم أن استثناءه من الملائكة يدل على أنه من جنسهم، وذلك لأن الاستثناء المنقطع وارد في العربية، ومنه قول النابغة الذبياني:
يا دار ميّة بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقفت فيها أصيلا كي أسائلها ... عيّت جوابا، وما بالرّبع من أحد
إلا الأواريّ لأيا ما أبيّنها ... والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فإنه استثنى الأواري من أحد، وحملت عليه آيات كثيرة من القرآن، مثل قوله تعالى من الآية ١٥٧ من سورة النساء: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ} وقوله جلّ شأنه من الآيتين ٤٣، ٤٤ من سورة يس: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} وإذ قد ورد ذلك في الشعر العربي الموثوق به وفي عدد وافر من الآيات لم يجز إنكاره، وإذا علمت هذا الكلام سهل عليك معرفة قول الشارح «أحد القولين» فإنه يريد أن من ذهب من العلماء إلى أن إبليس ليس من جنس الملائكة جعل الاستثناء في الآية منقطعا، ومن ذهب إلى أنه من جنسهم جعل الاستثناء متصلا، والاستشهاد بالآية - هنا - على المذهب الأول.
(٢) من الآيتين ٣٠، ٣١ من سورة الحجر.
(٣) جعل الكوفيون «إلا» حرف عطف بمنزلة «لا» فإذا قلت «ما قام القوم إلا زيد» فزيد معطوف على القوم يعرب بإعرابه، ولكنه في الحكم - من حيث المعنى - على خلاف ما قبله، وكأنك قلت «ما قام القوم لا زيد» فزيد بعد =