في الإحباط
  قالوا: وهذا عام في كل ما يفعله المكلف من خير أو شر، فلا بد أن يرى جزاءه، غير أنه يتعذر أن يجتمع على المكلف في الآخرة جزاء الخير وجزاء الشر، فلم يبق حينئذ إلا أن يرى بدل ذلك، وليس البدل إلا الموازنة بين الحسنات والسيئات، وإسقاط بعضها في مقابل بعض.
  ومعنى ذلك: أن يستوفي الإنسان ماله من الحسنات ثمّ يدفع منها ما عليه من السيئات، فإن أوفى حساب ما عليه من السيئات وبقي له شيء من الحسنات دخل الجنّة، وإن لم تغطِّ حسناتُه ما عليه من السيئات دخل النار.
  قلنا: الأولى في تفسير الآية هو غير ما ذكرتم من الموازنة والمساقطة، وهو: أن كل مكلف يرى ما قدم في صحائف الأعمال، غير أن المؤمن التائب يرى السيئات مكفرة، وبذلك يظهر فضل الله عليه، وسعة رحمة الله ومغفرته.
  ودليل هذا التفسير قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ٧ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ٨ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ٩}[الانشقاق]، ولو كان الأمر كما قال أهل الموازنة لكان الحساب عسيراً على الفريقين.
  وأما المجرم فإنه يرى في صحيفته كل ما عمل من خير أو شر، غير أنه يرى الخير - وإن كتب في الصحيفة - ملغياً منحبطاً لا وزن له، ولا قيمة، ولا نفع، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ٢٣}[الفرقان].
  يؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ٣٣}[محمد]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ ... الآية}[البقرة: ٢٦٤].
  وقوله تعالى: {.... لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ٢}[الحجرات].
  هذا، وقد حصل الاتفاق أنه لا موازنة في حق الكافر، وأن حسناته مُحْبَطَة؛ لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَاءِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ١٠٥}[الكهف].