هذا باب الفاعل
= يجب أن يقع الفاعل بعده، لئلا يفصل بين الجزأين اللذين يتم بهما الكلام، ولأن الفاعل محتاج إليه، وما عداه من متعلقات الفعل غير محتاج إليه، والمحتاج إليه أولى بالتقديم من غيره، فإن تقدم المفعول في اللفظ كان في النية مؤخرا، ونازع في هذا الكلام الأخفش ومن رأى رأيه فقالوا: إن كان مرادكم من أن رتبة الفاعل التقدم ورتبة المفعول التأخر اقتضاء الفعل لكل منهما فإنا نسلم أن اقتضاء الفعل للفاعل سابق على اقتضائه للمفعول، لأن الفعل يقتضي الفاعل ضرورة، ثم قد يقتضي المفعول وقد لا يقتضيه، فدرجة اقتضاء الفعل للمفعول متراخية عن درجة اقتضائه للفاعل، ولكنا نمنع أن يكون هذا هو مراد العلماء عند قولهم: «إن الضمير لا يعود على متأخر لفظا ورتبة» بل إن مرادهم من الرتبة في هذه العبارة موقعه من الكلام، ونحن ندعي أن المفعول قد كثر في الكلام الفصيح مجيئه تاليا للفعل وبعقيبه حتى إنه ليعتبر كأن موقعه في الكلام هو هذا الموقع وإن كان اقتضاء الفعل إياه متراخيا، فإذا تأخر في الكلام عن مجاورة الفعل فكأنه زحزح عن موضعه الذي أصبح بسبب كثرة تقدمه كأنه الموضع الطبيعي، فلو اتصل الفاعل حينئذ بضمير المفعول المتأخر عنه لفظا لم يكن الضمير عائدا على متأخر لفظا ورتبة، بل هو راجع إلى متأخر لفظا متقدم رتبة، كما تقولون أنتم في عود الضمير المتصل بالمفعول المتقدم على الفاعل المتأخر عنه.
قال أبو رجاء: ونحن نرى ما ذهب إليه الأخفش في هذه المسألة مذهبا مستقيما حريا بأن نأخذ به، لكثرة الشواهد التي رواها العلماء لهذه المسألة، وليس لهذه العلة التي ذكرناها عنه وإن كانت وجيهة.
ثم اعلم ثانيا أن الضمير الموضوع للغيبة يعود على متأخر لفظا ورتبة - على تفسير الجمهور - في ستة مواضع غير الموضع الذي قدمنا بيانه، وهي:
الموضع الأول: الضمير المرفوع بنعم أو بئس، المفسر بتمييز، نحو: «نعم رجلا زيد، وبئس رجلا عمرو» إذا قدرت المخصوص مبتدأ خبره محذوف، أو قدرته خبر مبتدأ محذوف، أما إذا قدرته مبتدأ خبره جملة نعم مع فاعله المستتر فيه وجوبا فإن مرجع الضمير المستتر في نعم يكون حينئذ متقدما رتبة.
الموضع الثاني: أن يكون الضمير مرفوعا بأول الفعلين المتنازعين، نحو قول الشاعر:
جفوني ولم أجف الأخلّاء إنّني ... لغير جميل من خليلي مهمل
الموضع الثالث: أن يكون الضمير مبتدأ يفسره خبره نحو قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا}. =