هذا باب النداء وفيه فصول
  فالهمزة المقصورة للقريب إلّا إن نزّل منزلة البعيد؛ فله بقية الأحرف كما أنها للبعيد الحقيقي.
= ونظير قول الفرزدق:
يا أرغم اللّه أنفا أنت حامله ... يا ذا الخنى ومقال الزّور والخطل
ونظيره قول الآخر:
ألا يا اسلمي ذات الدّماليج والعقد ... وذات الثّنايا الغرّ والفاحم الجعد
وزعم بعض النحاة أن (يا) في هذه الشواهد وأمثالها حرف تنبيه، وأنه ليس ثمة منادى محذوف، وهذا كلام غير مستقيم لأمرين، أولهما أنه قد تقدم على (يا) في بعض هذه الشواهد (ألا) وقد علمنا أن (ألا) حرف تنبيه بغير خلاف، فلو كان (يا) حرف تنبيه أيضا للزم أن يتوالى حرفان بمعنى واحد لغير توكيد، وذلك لا يجوز، وثانيهما أنا وجدنا العرب تستعمل النداء قبل الأمر والدعاء كثيرا، وقد ورد ذلك في أفصح كلام كقوله تعالى: {يا مُوسى أَقْبِلْ} وقوله جل شأنه: {يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ} وقوله:
{يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} وقوله تباركت أسماؤه: {يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} وقوله: {يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا} فإذا وجدنا حرف النداء قد وليه فعل الأمر أو فعل الدعاء علمنا أن المنادى بهذا الحرف محدوف، استئناسا بما كثر استعماله في مثل هذا الأسلوب.
نعم قد يقع حرف النداء - الذي هو «يا» - مقصودا به التنبيه، وذلك إذا وقع بعده (ليت) نحو قوله تعالى: {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا} - يا ليتنا نرد ولا نكذب - {يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} وقول الشاعر:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا
أو وقع بعده (رب) نحو قول الشاعر:
يا ربّ مثلك في النّساء غريرة ... بيضاء قد متّعتها بطلاق
أو وقع بعده (حبذا) نحو قول جرير:
يا حبّذا جبل الرّيّان من جبل ... وحبّذا ساكن الرّيّان من كانا
وإنما اخترنا أن الحرف الموضوع للنداء دالّ على التنبيه إذا وقع بعده واحد من هذه الكلمات الثلاث - (لبت) و (ربّ) و (حبذا) - لأنا لم نجد العرب قد استعملت النداء الصريح قبلهن، فلو قدرنا منادى في هذه المواضع كنا قد حملنا كلام العرب على ما لم تجر عادتهم باستعماله.