(فصل): في ذكر المعجز وحقيقته
  قلب المدن وفلق البحار، ولا أن يتعلم الفصاحة ليبلغ به ذلك إلى أن يأتي بمثل القرآن، ولا أن يقف على وجهٍ ولا حيلةٍ تجلب له ذلك ولو جوز العاقل أن يجتلب بها ذلك لجوز العقلاء أن يقفوا على حيلة يمكنهم بها تناول النجوم من السماء وخلق مثل الشمس والقمر، ومن جوز ذلك فهو خارج عن حد العقلاء داخل في غمار السوفسطائية الجهلاء.
  وأيضاً فقد كان في كل زمان من زمن الأنبياء $ من يعارضهم من أهل الحيل والطلسمات والمخارق فما قدروا على إبطال أمرهم ولا على الإتيان بمثل معجزاتهم بل كثير منهم أقر لهم واعترف بالحق لهم كسحرة فرعون، وكذلك أهل الطب والحكمة في زمن عيسى # أقروا له ولم يتمكنوا من الإتيان بمثل ما جاء به حتى اشتبه على بعضهم فاعتقد أنه إله لما عرفوا أن ما جاء به ليس من فعل أحد من البشر فغلطوا في إضافة الإلهية إليه وكذلك العرب في زمن النبي ÷ هم أهل الفصاحة والبراعة ولم يقل أحد منهم إنه يقدر على أن يظهر مثل ما جاء به من القرآن بل اعترف فصحاؤهم وهم أهل العقول الوافرة أنهم يعجزون عن الإتيان بمثله.
  ثم منهم مع ذلك من أصر على عداوته مع إقراره بمعجزته ومنهم من أسلم كما فعل سحرة فرعون وليس كذلك حال السحر والطلسمات لأنه ما من ساحر ولا صاحب طلسم إلا وهو يجد من يعارضه بمثل ما يظهره.
  وأيضاً فأنت ترى أهل هذه الصناعات لا يلهج بها إلا من كان سخيف الرأي دنيء الهمة كثير الكذب قليل الحياء والمروءة.
  والمعجزات لا يتعلق بها أو تظهر على يديه إلا أكمل الناس عقلاً وأفضلهم نسباً وحسباً وأصدقهم لهجة وأكثرهم حياء ومروءة وخيرهم ديناً من صغره إلى كبره وذلك يدل على أن أحدهما ليس هو الآخر فثبت ما ذكرناه من التفرقة بين المعجز والحيل، وبطل قول الفلاسفة ومن استجاب لهم.