(فصل في التحسين والتقبيح العقليين)
  أعظم النعم والعطايا ولولا هو ما عرف المنعم ولا عرفت النعم وهو حجة الله على عباده. انتهى.
  وأما تسمية هذين الإدراكين بلفظ الحسن والقبح فلا مجال للعقل فيه وإنما هو موكول إلى واضع اللغة ولهذا إن جميع العقلاء من الأمم المختلفة الألسن يدركون هذين الإدراكين على اختلاف ألسنتها ولغاتها فاعرف ذلك.
  فأهل الجبر أنكروا إدراك تعلق المدح والذم لغرضٍ مَّا لهم، وأدركوا ميل الطباع وشهوات الأنفس لَمَّا لم يتعلق بذلك حكم وحينئذ يكون نسبة هذا الإدراك إلى العقل مغالطة لأن هذا الإدراك قد تدركه البهائم فإن طباعها تميل إلى من أحسن إليها، وأنفسها تميل إلى مشتهياتها، وتراها تنفر عمن أساء إليها وضربها، وعما لا تشتهيه ولا ترغب إليه من المأكولات، ويعلم من حالها ذلك ضرورة.
  ونحن نوافقهم في القسمين الأولين، بمعنى أنا لا ننكر ميل الطباع واشتياق الأنفس، ونفرة الطباع واستكراهها، فإن أطلق على ذلك الإدراك اسم الحسن والقبح بحسب وضع اللغة فليس بمحل النزاع.
  ثم نقول: قد ثبت بحسب وضع اللغة أن اسم القبح يطلق على ما كان متعلقاً للضرر والعقاب، واسم الحسن يطلق على ما كان متعلقاً للنفع والثواب أو لم يكن متعلقاً لأيها على المختار، فنفس التعلق مدرك بالعقل والتسمية موكولة إلى اللغة.
  والدليل على ذلك أن شرب السموم وإن كان مستلذاً حال الشرب وملائماً للطبع فإن المعلوم من العقلاء أنهم يسمونه قبيحاً؛ لما كان مؤدياً إلى الضرر العظيم الذي هو هلاك النفس أو ضررها، وأن ما نافر الطبع وتعلق به مدح وثواب كالآلام الحاصلة من حفر الآبار وبناء الأكنة في الطرقات لمارتها فإنهم يسمونه حسناً وإن كان الطبع ينفر عنها؛ لما كان يتعلق بها في العاجل أو الآجل منفعة أو دفع مضرة، فجهة إدراك ما سمي حسناً عندنا هي عدم تعلق الضرر بالأفعال عاجلاً أو آجلاً.
  وجهة إدراك ما يسمى قبيحاً هي تعلق الضرر بها عاجلاً أو آجلاً.