(فصل في التحسين والتقبيح العقليين)
  فلو كان العلم بهذه القضايا نظرياً لجاز أن يتطرق إليها الشك.
  فكنا نصدق من أخبرنا بأنه شاهد أهل إقليم سليمي العقول وهم لا يميزون بين من أحسن إليهم وبين من أساء ولا يفرقون بين من ظلمهم وأهانهم وبين من أنصفهم وأعطاهم، ولا يفصلون بين من عاملهم بالعدل والإحسان وبين من عاملهم بالظلم والجور وأخذ الأموال وقتل الأولاد، وأنهم لا يفرقون بين رجلين أحدهما أخذ طفلاً فرباه وأطعمه وكساه والآخر أخذه وقطع أوصاله وفرقه إرباً إرباً.
  فإن اعترفوا بهذه الأمور التي ذكرناها فقد أبطلوا مذهبهم؛ لأنه لا وجه للفرق فيها إلا التحسين والتقبيح، ولا مستند له إلا العلم بهذه الأحكام.
  وإن أنكروا الفرق في هذه الأشياء فهو مكابرة وعناد، وجحد للعلوم الضرورية، ومن بلغ إلى هذا الحد في الإنكار والجحود فلا مطمع في فلاحه.
  وأما من زعم أن هذه القضايا يستند العلم بها إلى الشهرة والإلف والعادة فنقول لهم: ما مرادكم بذلك؟ أتريدون أنها مستفيضة فيما بين العقلاء، وأن أحداً لا ينكرها بل يعترف بها؟ فهذا صواب وهو معنى قولنا إنها ضرورية.
  أو تريدون بشهرتها بين العقلاء هو أنها ليست علوماً حقيقية وأنهم ليسوا على ثقة منها؟ فهذا باطل فإنا نقطع بقبح الظلم والكذب والعبث والسفه والجهل، وبوجوب القضاء والرد وشكر النعمة وحسن التفضل والإحسان والجود كما نقطع بسائر العلوم البديهية كالعلم بأن العشرة أكثر من الخمسة، ونعلم أن من خالفنا في العلم بهذه القضايا أنه يفرق بضرورة عقله بين من أحسن إليه وبين من أساء وبين الظلم والجور والإهانة والعدل ولا شك في ذلك ولا تردد فيه.
  وأن من جوز في أمة من الأمم أنهم يستحسنون الظلم والجور والسفه وتكليف ما لا يطاق ومخاطبة الجماد ويستقبحون العدل والإحسان وتعظيم من