(فصل: في حقيقة النظر و) ما يجب منه وبيان (أقسامه)
  بالمحق إلا بعد معرفة الحق) كما قال علي # للحارث بن حوط: «يا حار إنه لملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون بالحق فاعرف الحق تعرف أهله ... إلى آخره».
  (ولا يعرف الحق إلا بالنظر) والاستدلال، (فيمتنع التقليد حينئذ) أي: حين إذ ترتبت معرفة المحق على معرفة الحق امتنع التقليد لعدم معرفة الحق وهذا واضح كما ترى.
  فأما من قال بأن النظر بدعة فإن دلالة العقل والسمع تكذبه أما العقل: فلأن المقلد لا يأمن من الهلاك لسبب ترك النظر كما مر، ولأن العقلاء يذمون من لم ينظر في أمور دينه كما يذمونه على ترك النظر في أمور دنياه.
  وأما دلالة السمع فكقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ١٧}[الغاشية]، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ}[الروم: ٨]، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الايات [العنكبوت: ١٩]، ونحوها كثير.
  واعلم أن النظر قد يكون واجباً كما مر، وقد يكون مندوباً كالنظر لزيادة الاعتبار والتفكر في المساكن الخالية والأمم الماضية وفي سرعة زوال متاع الدنيا الفانية؛ لأن ذلك مما يدعوه إلى الزهد وترك الاشتغال بالدنيا، وقد يكون محظوراً وذلك كالتفكر في ذات الباري تعالى ونحو ذلك ككثير من مسائل علم اللطيف الخارجة عن حد إدراك العقل.
  وقال الإمام يحيى #: وذهب قوم من الملحدة إلى أن التكليف لم يرد متناولاً للاعتقادات العلمية وإنما ورد متناولاً للإقرار والنطق بكلمتي الشهادة لا غير، وزعموا أن هذا هو الإيمان وتدرجوا بذلك إلى إبطال النظر وقصدوا بذلك التلبيس على عوام الخلق، ودس الإلحاد في قلوبهم.
  قال: والرد عليهم أنا لا ننكر التكليف بالإقرار والنطق بكلمتي الشهادة