(فصل): يذكر فيه # بيان وجه الحكمة في خلق المكلفين وسائر المخلوقين وما يتصل بذلك
  ولما علم الله أن البهائم لا تقدر على ما يقدر الناس من تربية أولادهم جعل أولاد البهائم بخلاف أولاد الناس فإن البهيمة تلد ولدها وقام من ساعته يطلب ضرع أمه وقد فطره الله من وقت ولاده على اجتلاب المنافع والنفار عن المضار رحمة من الله ونعمة وسبباً لحياة المولود.
  ثم أنعم الله على العبد بنعم كثيرة - لا يحصى عددها - في نفسه فجعل له عينين ولساناً وشفتين، وأنفاً وأذنين، ويدين ورجلين، وغير ذلك من الآلة والبنية المخصوصة، وطرق ما يدخل مما يغتذي به، وطريق ما يخرج، وجعل له نَفَساً يستنشق به الهواء وهو سبب الحياة والنماء، وجعل له طريقاً أجوف مفتوحاً لا ينطبق وهو الحلقوم وذلك لضعف النَّفَس وكثرة تتابعه، وجعل للطعام والشراب طريقاً منطبقاً وهو المريء ينفتح بالماء والطعام، وجعل المعدة مستقراً للغذاء، وجعل صفوه يتقسم على جميع الجسد والأعضاء، وجعل المخارج ترمي بالثقل والأذى.
  ومما يدل على عظم هذه المواهب أن العبد الفقير المملوك الذي يكون من أدنى الناس منزلة وأقلهم نعمة فإنه قد أعطي جميع ما ذكرنا من تمام الخلق وحصول الآلة والصحة والسلامة والعافية.
  ألا ترى أنه لو قيل له: أتحب أن تعطى ملكاً عظيماً في الدنيا ويكون جزاء على أن تسلب مادة من إحدى المواد التي وهبها له الله كالسمع والبصر أو قطع يده أو رجله أو سلب إحدى القوى التي ذكرنا - ما أراد ذلك ولو أعطي الدنيا بأسرها.
  ومن ذلك ما خُوِّل الإنسان من الأرزاق والمال والخدام فإنه جعل للأحرار عبيداً من بني آدم لتبلغ النعمة وتظهر الحكمة، ولو جعلهم سواء لا يملك الأحرار المماليك لدخل عليهم الضرر ولأدى ذلك إلى أن يتولى الإنسان جميع الأعمال لنفسه التي لا يستغني عنها، ولو كان كل إنسان يتولى خدمة نفسه لاشتغل كل إنسان بمصالح نفسه في قوته عن العلم وطلبه وعن أعمال الآخرة