الخلاف بين البصريين والبغدادين حول الإدراك
  يعلم لا محالة، ثم إذا أدركه وجد مزية وحالا لم يكن يجدهما في الحالة الأولى، وليست تلك المزية إلا ما قلناه.
  فإن قيل: ولم قلتم إن صحة الإدراك هو لكونه حيا؟ قيل له: لأن ما دخل في جملة الحي صح الإدراك به كاليد الصحيحة، وما خرج عن كونه حيا خرج عن صحة الإدراك به كاليد المبانة.
  فإن قيل: إنما لم يصح الإدراك باليد المبانة لأنها منفصلة عنه، قلنا، إنا قد ذكرنا أنه مما لا تأثير للاتصال والانفصال في ذلك. على أنا نفرض الكلام في اليد الشلاء، فإنها متصلة مع أن الإدراك بها لا يصح، وكذلك بالشعر والظفر مع اتصالهما بالحي ولم يصح بهما الإدراك لما خرجا عن جملة الحي، فصح وتقرر ما أردناه.
  فإن قيل: قد بينتم أن صحة الإدراك إنما هو لكونه حيا، فبينوا أن المقتضى لذلك إنما هو كونه حيا بشرط وجود المدرك، حتى إذا ثبتت هذه الصفة في القديم تعالى، وجب القضاء بكونه مدركا للمدركات.
  قيل له: الذي يدل على ذلك، أن أحدنا متى كان حيا والحالة صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود فلا بد من أن يدركه لا محالة، ولن يكون هكذا إلا ولهذه الأمور تأثيرا لأن الحكم يدور عليها نفيا وإثباتا، فلا يخلو، إما أن يكون الكل شرطا والمؤثر غيرها، أو الكل مقتضى، أو بعضها شرط والباقي مقتضى.
  لا جائز أن يقال: إن الكل شرط والمؤثر غيرها، وإلا لزم في الواحد منا مع صحة الحالة وارتفاع الموانع وجود المدرك أن لا يدركه لعدم ذلك المؤثر والمعلوم خلافه. وبهذه الطريقة أبطلنا القول بأن الإدراك معنى.
  ولا أن يقال: إن الكل مقتضى، لأن الأمور الكبيرة المختلفة لا يجوز اجتماعها على اقتضاء حكم وإيجابه، فلم يبق إلا أن يقال: إن البعض شرط والباقي مقتض.
  ولا يجوز أن يقال: إن صحة الحاسة هو المؤثر، لأنه ليس المرجع بها إلا إلى تأليف مخصوص، والتأليف لاحظ له في إيجاب كون الحي مدركا لأن هذه الصفة ترجع إلى الجملة، وحكم التأليف مقصور على محله.
  ولا أن يقال: إن المؤثر هو ارتفاع الموانع، لأنه راجع إلى النفي وكونه مدركا أمر ثابت، والأحكام الثابتة لا تعلل بما يرجع إلى النفي.