استحقاق العقاب:
  كلفنا هذه الأفعال الشاقة لما له علينا من النعم العظيمة فإن ذلك غير ممتنع، فمعلوم أن من أخذ غيره من قارعة الطريق فرباه وأحسن تربيته وخوله وموله وأنعم عليه بضروب من النعم، جاز له أن يكلفه فعلا يلحقه بذلك مشقة، نحو أن يقول: ناوليني هذا الكوز، أو تمم لي هذا السطر، ولا يجب أن يغرم في مقابل ذلك شيئا آخر، كذلك في القديم تعالى فنعمه عندنا لا تحصى وأياديه لدينا لا تحصر ولما ذهب في ذلك إلى ما ذكرناه قال: إنه إنما يثبت المطيعين لا لأنهم استحقوا ذلك، بل للجود.
  والأصل في الجواب عليه أن يقال: إن القديم تعالى إذا جعل هذه الأفعال الشاقة علينا وكان يمكنه ألا يجعلها كذلك، فلا بد من أن يكون في ذلك من الثواب ما ذكرناه. واستشهاده بالواحد منا، وأنه إذا أنعم على الغير بضروب من النعم فإنه يحسن منه أن يكلفه ما يلحق به مشقة نحو أن يقول له: ناولني هذا الكوز أو ما يجري هذا المجرى فلا يصح، لأنه إنما يحسن منه ذلك في الموضع الذي لا يتبين للإنسان فيه كبير مشقة، وليس كذلك سبيل ما كلفنا اللّه تعالى، ففي ذلك ما يتضمن الجود بالنفس، والمخاطرة بالروح فلا يقاس بما أورده، ولهذا فلو كلف المنعم الذي وصفه المنعم عليه بما يتضمن المشقة العظيمة، نحو المواظبة على خدمته والقيام بين يديه آناء الليل والنهار وما شاء كل ذلك، لم يحسن إليه، بل كان يكون للمنعم عليه أن يقول: كان من حقك ألا تتفضل عليّ بالأول حتى لا تأخذني بهذه التكاليف من بعد.
  أما قوله في الثواب، وأنه يجب إيصاله إلى المطيعين من حيث الجود، فظاهر التناقض، لأن الجود هو التفضل، والتفضل هو ما يجوز لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله، والواجب هو ما لا يجوز له أن لا يفعله، فكيف يقال: إن هذا يجب من حيث الجود، وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: يجب أن يفعل ولا يجب أن يفعل، وذلك محال.
  وإذ قد بينت هذه الجملة، فالذي نعلمه من حال الثواب المستحق من جهة اللّه تعالى، أنه لا بد من أن يكون من جنس الملاذ، فأما أن يكون بالمآكل والمشارب والمناكح، فإن طريقة السمع، ويمكن أن نعلمه أيضا بترغيب اللّه تعالى فيه، فيقال: لو لم يكن من قبيل ما قد اشتهيناه في الدنيا لكان لا يصح فيه الترغيب، فهذا هو الذي نقوله في استحقاق الثواب.
استحقاق العقاب:
  وأما استحقاق العقاب، فالذي يدل عليه العقل والسمع أيضا.