شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

شبه المخالفين

صفحة 312 - الجزء 1

شبه المخالفين

  والقوم يتعلقون في هذا الباب بشبه.

ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس

  من جملتها، قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}⁣[الأعراف: ١٧٩] ووجه تعلقهم به هو أنهم يقولون: إن هذه اللام لام الغرض ولها نظائر كبيرة في اللغة فظاهر الآية يقتضي أنه تعالى خلق كثيرا من الجن والإنس ليعاقبهم في نار جهنم، ولن يكون كذلك إلا ويريد منهم ما استوجبوا به لعقوبة، وفي ذلك ما نريده.

  والأصل في الجواب عن ذلك، أن أول ما في هذا أنه لا يمكنكم الاستدلال بالسمع، لأن صحة السمع تنبني على كونه تعالى عدلا حكيما، وأنتم لا تقولون بذلك بل سددتم على أنفسكم طريقة العلم بإثبات الصانع على ما مر فكيف يمكنكم الاحتجاج به؟ ثم نقول: قولكم أن هذه اللام لام الغرض لا يصح، لأن لام الغرض مما لا يدخل في الأسماء الجامدة وإنما تدخل على المصادر والأفعال المضارعة، وعلى هذا لا يقال: دخلت بغداد للسماء والأرض كما يقال دخلت بغداد للعلم أو لطلب العلم، وجهنم اسم جامد، فكيف تدخله لام الغرض؟

  ومتى قالوا: الغرض به المعاقبة بجهنم كان ذلك عدولا عن الظاهر، وإذا عدلوا عن الظاهر فليسوا بالتأويل أولى منا فنتأوله على وجه يوافق دلالة العقل والسمع، فنقول: إن هذه اللام لام العاقبة، ولها نظائر كثيرة في القرآن وفي اللغة، قال اللّه تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}⁣[القصص: ٨]، ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لهذا الوجه بل التقطوه ليكون لهم قرة عين على ما حكى اللّه تعالى عنهم ذلك بقوله: {وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ}⁣[القصص: ٩] وقوله: {رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}⁣[يونس: ٨٨] وعاقبتهم يضلون عن سبيلك وقوله: {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً}⁣[آل عمران: ١٧٨] أي وعاقبتهم أن يزدادوا إثما قال الشاعر:

  له ملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب

  وقال آخر:

  وللموت تغذوا الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن