شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

هل يكون أهل الجنة ملجئين إلى هذه المعرفة

صفحة 29 - الجزء 1

  مقدورا أصلا، فإن دخل جنسه تحت مقدورنا، فالقديم تعالى بأن يكون قادرا عليه أولى، لأن قدرته على الأجناس إن لم تزد على قدرتنا لا تنقص عنها. وبعد فإن الذي يحصر القدرات في الجنس والعدد إنما هو القدرة، والقديم تعالى قادر لذاته، فإذا كان العلم باللّه تعالى من المقدورات وجب أن يكون قادرا عليه، وإذا ثبتت قدرته عليه صح أن يوجده فينا وإذا أوجده فينا كان ضروريا.

  وإن كان خلافه في الوجوب فالكلام عليه هو أن نقول: إن أهل الآخرة لا يخلو حالهم من أمرين: إما أن يكونوا من أهل الجنة، أو من أهل النار. فإن كانوا من أهل الجنة فلا يخلو، إما أن يعرفوا اللّه تعالى، أو لا يعرفوه. فإن لم يعرفوه لم يعرفوا استحقاق الثواب من جهته، وجوزوا انقطاع ما هم فيه من النعيم، وذلك يؤدي إلى التنغيص المنفي عنهم، وإن عرفوا اللّه تعالى فلا يخلو، إما أن يكونوا عرفوه اضطرارا أو استدلالا، لا يجوز أن يعرفوه استدلالا، لأن النظر والاستدلال يتضمن المشقة ويؤدي إلى التنغيص والتكدير وهما منفيان عنهم، فلم يبق إلا أن يعرفوه ضرورة على ما نقوله.

  ومتى قالوا: إنهم يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال فلا يتضمن المشقة ولا يؤدي إلى التنغيص، قلنا: لا بد من أن تكون هذه المعرفة واقعة منهم باختيارهم، ولو كان كذلك لوجب أن يختار أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه ثواب بعض الأنبياء، والمعلوم خلافه.

هل يكون أهل الجنة ملجئين إلى هذه المعرفة

  فإن قيل: هلا جاز أن يكونوا ملجئين إلى هذه المعارف، فلا يستحقون بذلك مدحا ولا ثوابا؟ قلنا: إن هذا سؤال لا يصح من الخصم، لأن مذهبهم أنهم مكلفون في دار الآخرة، والإلجاء مناف للتكليف. وهذه القسمة بعينها تعود في أهل النار، لأنك تقول: إن حالهم لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يعرفوا اللّه تعالى أو لا فإن لم يعرفوه جوزوا انقطاع ما هم فيه من العقاب وذلك يؤدي إلى الروح والراحة المنفيين عنهم، فإن عرفوه فلا يخلو؛ إما أن يعرفوه اضطرارا، أو استدلالا، لا جائز أن يعرفوه استدلالا، لأنا إذا جعلنا العلم باللّه موقوفا على اختيارهم للنظر والاستدلال جاز أن لا ينظروا أو لا يتفكروا، فلا يحصل لهم العلم باللّه تعالى فجوزوا انقطاع عقابهم، وذلك يؤدي إلى الروح والراحة، وذلك لا يجوز عليهم.