فصل والغرض به الكلام في أن الله تعالى عالم
فصل والغرض به الكلام في أن اللّه تعالى عالم
  وتحرير الدلالة على ذلك، هو أنه قد صح منه الفعل المحكم، وصحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما. فإن قيل: وما المحكم من الأفعال؟ قلنا: كل فعل واقع من فاعل على وجه لا يتأتى من سائر القادرين، وفي الأكثر إنما يظهر ذلك في التأليف، بأن يقع بعض الأفعال إثر بعض.
  وهذه الدلالة مبنية على أصلين:
  أحدهما، أنه تعالى قد صح منه الفعل المحكم.
  والثاني، أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما.
  أما الذي يدل على أنه تعالى قد صح منه الفعل المحكم، فهو خلقه للحيوانات مع ما فيها من العجائب، وإدارته للأفلاك وتركيب بعضها على بعض، وتسخيره الرياح، وتقديره الشتاء والصيف، وكل ذلك أظهر وأبلغ في الأحكام من الكتابة المحكمة الحسنة والبيان العظيم.
  فإن قيل: ما أنكرتم أن إحكام هذه الأفعال صحيحة من جهة بعض القادرين بالقدرة، إذ الأصل في ذلك التأليف مقدور لنا؟ قلنا: نفرض الكلام في أول حي خلقه اللّه تعالى فيسقط الاعتراض. على أنا نعلم الآن من جهة السمع، أن هذه الأفعال المحكمة من جهة اللّه تعالى ومن قبله، لا يشاركه فيها غيره.
  وأما الذي يدل على أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما، فهو أنا وجدنا في الشاهد قادرين: أحدهما، قد صح منه الفعل المحكم كالكاتب، والآخر تعذر عليه كالأمي. فمن صح منه ذلك فارق من تعذر عليه بأمر من الأمور، وليس ذلك الأمر إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه عالما، لأن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا كونه ظانا ومعتقدا، وذلك مما لا تأثير له في إحكام الفعل. ألا ترى أن أحدنا في أول ما يمارس الكتابة ويتعلمها قد يظنها ويعتقدها ثم لا يتأتى منه إيقاعها على هذا الوجه المخصوص، فصح بهذا أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما في الشاهد، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب، لأن طرق الأدلة لا تختلف غائبا وشاهدا.
  ويمكن أن نسأل عن هذه المفارقة وأنها لم عللت أولا، ثم لم وجب تعليلها بأمر يرجع إلى الجملة؟ والكلام عليه ما ذكرناه في كونه قادرا، فلا وجه لإعادته.