الخلاف بين البصريين والبغدادين حول الإدراك
  إذا ثبت هذا فاعلم أن هذه مسألة خلاف بين الناس.
الخلاف بين البصريين والبغدادين حول الإدراك
  فعند شيوخنا البصريين أن اللّه تعالى سميع بصير مدرك للمدركات، وأن كونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا، وأما عند مشايخنا البغداديين، هو أنه تعالى مدرك للمدركات على معنى أنه عالم بها، وليس له بكونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا.
  فعند هذا لا بد من بيان أن المدرك له بكونه مدركا صفة، وأن هذه الصفة إنما يستحقها الواحد منا لكونه حيا بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع.
  أما الذي يدل على أن اللّه تعالى سميع بصير مدرك للمدركات، هو أنه حي لا آفة به، والموانع المعقولة مرتفعة، فيجب أن يدرك المدركات.
  وأما الذي يدل على أن المدرك له بكونه مدركا صفة، هو أن أحدنا يفصل بين حاله إذا كان مدركا وبين حاله إذا لم يكن مدركا، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه. ولا يمكن أن يرجع بهذه التفرقة إلى كونه عالما حيا.
  فإن قيل: ولم قلتم ذلك؟ قيل له: لأن أحدنا لو غمض عينيه فإنه لا يدرك ما بين يديه مع كونه حيا، فلو لا أن كونه مدركا أمر زائد عليه وإلا لم يجز ذلك. وبعد، فإن كونه حيا مما لا يتعلق بالغير، وكونه مدركا متعلق بالغير، فكيف يجوز أن يكون أحدهما هو الآخر؟ هذا هو الكلام في أن كونه مدركا لا يرجع إلى كونه حيا.
  وأما الكلام في أنه صفة زائدة على كونه عالما، فهو أن الذي به يعرف تغاير الصفتين أن تثبت إحداهما مع فقد الأخرى، وهذا ثابت في مسألتنا، لأنه قد ثبت العلم مع فقد الإدراك، وثبت الإدراك مع فقد العلم.
  أما ثبوت العلم مع فقد الإدراك، فهو أن أحدنا يعلم القديم تعالى ولا يدركه، وكذلك فإنه يعلم الجوهر الواحد وكثيرا من الأعراض ولا يدركها، وكذلك يعلم المعدومات ولا يدركها.
  وأما ثبوت الإدراك مع فقد العلم، فهو أن النائم قد يدرك قرص البق والبراغيث حتى يتأذى به، وقد يكون شيئا لا يثبته ولا يعلمه، وكذلك فإنه يدرك الحديث الذي بحضرته ولا يعلمه، وكذلك فإنه يرى الشيء من بعيد فيظنه أسود فإذا هو أخضر.
  يبين هذه الجملة، أن أحدنا لو أخبره نبي صادق أن اللّه تعالى أحدث جسما فإنه