صنع الله الذي أتقن كل شيء
  إذا ثبت هذا، ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس، ولي شيء من ذلك متقنا، فلا يجوز أن يكون اللّه تعالى خالقا لها.
  فإن قال: ما أنكرتم أن هذه الأشياء متقنة لتضمنها الدلالة على أن اللّه تعالى جعلها متناقضة فاسدة؟.
  قلنا: إن ذلك لا يصح من وجوه:
  أحدها: أن هذه الأشياء التي هي التهود والتنصر والتمجس وغير ذلك، كلها مخلوقة فيكم من جهة اللّه تعالى على سائر الوجوه عندكم، فكيف يقال إن اللّه تعالى جعلها على وجه ولم يجعلها على وجه؟.
  ومنها: أن التناقض والفساد مما لا تأثير لجعل الجاعل فيه، فكيف يصح قولكم إن اللّه تعالى جعله متناقضا؟ يبين ذلك، أنه لو كان لجعل الجاعل تأثير في تناقض الشيء وفساده، لكان لا يمتنع أن يجعل الظلم متناقضا فاسدا في بعض الحالات، والعدل في بعضها، وذلك محال.
  وأيضا، فليس يكفي في كون الفعل متقنا أن يكون دلالة على أمر من الأمور بل لا بد أن يكون حسنا، ألا ترى أن الكلام الفصيح الذي يشتمل على الفحش والخنا لا يوصف بالإتقان مع تضمنه الدلالة على أن فاعله قادر عالم، ففسد ما قالوه.
  ثم إنه |، ذكر: أن جميع القرآن يشهد على ما قلناه ويؤذن بفساد مذهبهم، لأن جميع القرآن أو أكثره يتضمن المدح والذم والوعد والوعيد والثواب والعقاب، فلو كانت هذه التصرفات من جهة اللّه تعالى مخلوقة في العباد، لكان لا يحسن المدح ولا الذم ولا الثواب ولا العقاب، لأن مدح الغير وذمه على فعل لا يتعلق به لا يحسن.
  فإن قيل: ما أنكرتم أن هذه التصرفات متعلقة بنا من جهة الكسب؟ قلنا: إن الكسب غير معقول، وما لا يعقل لا يجوز أن يكون جهة الحاجة.
  وبعد، فإن الكسب عندكم يجب مع الصحة، وما يجب عند الصحة لا يجوز أن ينصرف إليه المدح والذم ويستحق عليه الثواب والعقاب.