شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها

صفحة 258 - الجزء 1

  ثم يقال لهم: الآية وردت مورد التمدح، ولا مدح في أن يكون اللّه تعالى خالقا لأفعال العباد مع اشتمالها على القبيح والحسن. يبين ذلك أن إذا كان ينفي عن خلقه اللعب بقوله: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ١٦}⁣[الأنبياء: ١٦] فلأن ينفى عنه أفعال العباد وما فيها من فضيحة وشنيعة أولى.

  وبعد، فإن الخلق في التعارف إنما يجري على فعل وقع مطابقا للمصلحة، ومعلوم أن أفعال العباد ليست كذلك فكيف تجعل مخلوقة.

إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ:

  وربما يتعلقون بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ}⁣[هود: ١٠٧] قالوا: ففي أفعال العباد ما يريده اللّه تعالى، فيجب أن يكون فاعلا لها.

  وجوابنا، أن هذا كلام يقتضي كونه فاعلا لما يريده في الحال الذي يريده، وهذا يوجب عليكم قدم العالم، لاعتقادكم أنه تعالى مريد لذاته أو بإرادة قديمة. ومتى قلتم إنه تعالى إنما أراد فيما لم يزل أن يخلق العالم قلنا: ذلك نفي، والإرادة لا تتعلق بالنفي على ما نبينه من بعد. وإن قلتم: إنه تعالى أراد فيما لم يزل أن يخلق العالم فيما لا يزال فلا يلزم قدم العالم قيل لكم: ولم لم يرد خلقه في الحال وهو مريد لذاته، والمراد من فعله، فيلزمهم قدم العالم على كل حال. ثم إننا نتأول الآية على وجه يوافق الدلالة العقلية، فنقول: المراد به أنه فاعل لما يريد من فعل نفسه، ولا يجوز غير هذا، لأن الآية وردت مورد الامتداح، لا مدح في أن يكون فاعلا لأفعال العبد وفيها القبائح والمناكير، فهذه جملة الكلام في ذلك.

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها:

  ومما يتعلقون به قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها}⁣[الحديد: ٢٢]. قالوا ففي هذه الآية دلالة على أن جميع المصائب من جهة اللّه تعالى على ما نقوله، وجوابنا أن الكتابة في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} راجعة إلى الأنفس لا إلى المصائب لأنها أقرب المذكورين، والكتابة إنما ترجع إلى أقرب مذكور. فبين تعالى أنه قبل خلق الأنفس كان عالما بما يصير أمرهم إليه وتصيبهم من المصائب مكتوبا في اللوح المحفوظ، فلا تعلق لكم بها، وبعد فلو