شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

فصل

صفحة 450 - الجزء 1

  فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين، وعطف عليه الكلام في أنه يستحق العقاب على طريق الدوام، وكان الترتيب الصحيح في ذلك هو أن يذكر أولا أن الفاسق يستحق العقوبة على طريقة الدوام ثم يرتب على ذلك الكلام في أنه يعذب بالنار أبدا، غير أنا نسلك طريقته ونجري على منهاجه، فنبدأ بما بدأ به.

  والذي يدل على أن الفاسق يخلد في النار ويعذب فيها أبدا ما ذكرناه من عمومات الوعيد، فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة، تدل على أنه يخلد، إذ ما من آية من هذه الآيات التي مرت، إلا وفيها ذكر الخلود والتأبيد أو ما يجري مجراهما.

  وهنا طريقة أخرى مركبة من السمع وتحريرها هو أن العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يعفى عنه، أو لا يعفى عنه، فإن لم يعف عنه فقد بقي في النار خالدا، وهو الذي نقوله، وإن عفي عنه فلا يخلو إما أن يدخل الجنة أولا، فإن لم يدخل الجنة لم يصح لأنه لا دار بين الجنة والنار، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة. وإذا دخل الجنة فلا يخلو، إما أن يدخلها مثابا أو متفضلا عليه، لا يجوز أن يدخل الجنة متفضلا عليه لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلا بد من أن يكون حاله متميزا عن حال الولدان المخلدين وعن حال الأطفال والمجانين، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثابا لأنه غير مستحق، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح، واللّه تعالى لا يفعل القبيح.

  فإن قيل: ومن أين أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح؟

  قلنا: لأن الثواب إنما يستحق على طريقة التعظيم والإجلال، وما هذا سبيله لا يحسن دون الاستحقاق، ولهذا فإنه لا يحسن من الواحد منا أن يعظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والده، وأن يعظم والده على الحد الذي يعظم به النبي ، وأن يعظم النبي على الحد الذي يعظم ربّ العزة.

  فهذا هو الكلام في أن الفاسق يعذب بالنار أبد الآبدين.

  وأما الكلام في أن العقاب يستحق على طريقة الدوام، فهو أنه لو لم يستحق على طريقة الدوام لكان لا يحسن من اللّه تعالى أن يعذب الفساق بالنار ويخلدهم فيها، وقد دللنا على أن الفاسق يعذبه اللّه تعالى أبد الآبدين، فدل على أن استحقاق العقاب على طريقة الدوام.