شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

معنى المنعم:

صفحة 46 - الجزء 1

  هذا ثوب كسانيه فلان وسكت ولم يكن شاكرا، ولو عظم من دون الاعتراف، فقال:

  فعل اللّه لفلان كذا ولم يذكر النعمة ولا اعتراف بها لم يكن شاكرا أيضا، وإنما يكون شاكرا إذا جمع بين الأمرين جميعا فقال: هذا ثوب كسانيه فلان جزاه اللّه عني خيرا، أو شكر له صنيعه وفعله.

  ثم إن هذا الشكر والاعتراف قد يكون باللسان والمرجع به إلى ما ذكرناه ولا يجب إلا إذا اتهم بكفران النعمة فأما أن يدينه بكل حال، فلا.

  وقد يكون بالقلب، والمرجع به إلى العلم بنعمة المنعم والعزم على إظهار شكرها إذا لحقته تهمة في ذلك، وهذا مما يجب دائما ولا يسقط إلا عند سهو أو غفلة.

  وكما أن الشكر قد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، فقد يكون بضرب من الأفعال المخصوصة، نحو هذه العبادات التي تتقرب بها إلى اللّه تعالى، من صلاة وصيام وحج وجهاد، فإنها جارية مجرى الشكر للّه تعالى على نعمه وأياديه إلا أن هذا الضرب من الشكر ليس يستحقه إلا اللّه تعالى لأنه إنما يؤدي على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع، وذلك لا يستحق إلا على أصول النعم، والقادر على أصول النعم ليس إلا اللّه تعالى، فلذلك اختص باستحقاق هذا الضرب من الشكر.

  ثم إن المرء متى أتى بهذه العبادات، وأدى هذا الشكر استحق من اللّه تعالى نفعا آخر ونعمة أخرى بخلاف الشكر منا إذا شكر أحدنا فإنه ليس يستحق من جهته شيئا آخر، والسبب في ذلك هو أن اللّه تعالى هو الذي جعل الشكر شاقا علينا، فلا بد أن يكون في مقابله ما يوفي عليه شكره، وإلا كان ظلما، وكان بمنزلته أن يكلف أحدنا غيره عملا شاقا ولم يوفر عليه أجرا، فكما أن ذلك قبيح في الشاهد لكونه ظلما، فكذلك في الغائب. وليس كذلك سبيل أحدنا فإنه لم يجعل الشكر شاقا على الغير، وإنما اللّه تعالى جعله بهذه الصفة، فلا جرم أن من شكره استحق عليه الثواب الجزيل، والأجر العظيم. ولهذا فإنه تعالى لما أوجب علينا شكر الوالدين، فمن شكر نعمهما البارءة الوالدة فإنه يستحق من اللّه تعالى نفعا آخر ونعمة أخرى. فعلى هذا يجرى القول في حقيقة النعمة والمنعم وما يتصل بهما.

  ونعود بعد هذه الجملة إلى الكلام في أول نعمة أنعم اللّه تعالى بها علينا.