شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

الفصل الثاني في العدل

صفحة 205 - الجزء 1

  وبعد، فإنا لا نتكلم في هذه المسألة مع من ينازع في أصل تلك المسألة، لأن هذه المسألة من فروعات تلك المسألة، لا يحسن أن نتكلم في فرع من الفروع ولما نقرر أصله، كما لا يحسن أن نكالم اليهود في المسح على الخفين، ولا المجسمة في نفي الرؤية ولما نثبت أنه تعالى ليس بجسم ولما نثبت نبوة محمد ÷.

  وبعد، فلا خلاف بيننا وبينكم في أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا، وأنّا مختارون فيها. وإنما الخلاف في وجهة التعلق أكسب أو حدوث؟ فعندنا أن جهة التعلق إنما هو الحدوث، وعندكم أن جهة التعلق إنما هو الكسب فلا حاجة للمنازعة.

  وبعد، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه، لوجب صحة أن يخلق اللّه تعالى في أحدنا وهو عالم بقبح القبيح - مستغن عنه عالم باستغنائه عنه - ذلك، حتى يقع منه الكذب دون الصدق في الصورة التي ذكرناها، والمعلوم خلافه.

  فإن قيل: هذه الدلالة تبنى على أن أحدنا غني، ونحن لا نسلم ذلك، فكيف يكون غنيا وهو أبدا في أشد الحاجة.

  قلنا: إنا لم نبن الدلالة على أن أحدنا غني على الإطلاق، وإنما قلنا: متى استغنى بالحسن عن القبيح، لا يختار القبيح أصلا، وإذا وجب ذلك فيه مع أنه ليس بغني على الإطلاق، وإنما استغناؤه بشيء عن شيء، فالقديم تعالى وهو أغنى الأغنياء أولى بذلك وأحق.

  فإن قيل: كيف عللتم الحكم الواحد بعلل كثيرة، ولو جاز ذلك هاهنا لجاز في الحركة مع المتحرك، والشهوة على المشتهي؟.

  وجوابنا، أن ذلك إنما لا يجوز إذا كانت العلة موجبة، فأما إذا كانت كاشفة فإنه يجوز. ولهذا فإنا عللنا الظلم بكونه ضررا لا نفع فيه ولا دفع ضرر ولا استحقاق ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين.

  فإن قالوا: قولكم، أن الواحد منا لو خير بين الصدق والكذب وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر فإنه لا يختار الكذب على الصدق لأنه يستغنى بالصدق عن الكذب، ليس بأولى من أن يعكس عليكم فيقال: بل يستغنى بالكذب عن الصدق، قيل له: لو كان ذلك كذلك، لكان يجب أن يختار أحدنا الكذب على الصدق في بعض الحالات مع وجود هذه الشرائع، ومعلوم خلاف ذلك.