الفصل الثاني في العدل
  وقد أورد | في الكتاب المثال الذي ذكره شيخنا أبو علي، وهو أنه يعلم ضرورة أن أحدنا لا يشوه نفسه كأن يعلق العظام في رقبته ويركب القصب ويعدو في الأسواق، لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وبغناه عنه.
  إلا أن للخصم أن يشغب فيه فيقول: إنه إنما لم يفعل ذلك لأنه يستضر به غاية الاستضرار، حتى لولاه لجاز أن يختاره.
  فالأولى في المثال ما ذكره شيخنا أبو هاشم: وهو أن أحدنا إذا كان عالما بقبح الكذب وحسن الصدق، وقيل له إن كذبت أعطيناك درهما وإن صدقت أعطيناك درهما، فإنه لا يختار الكذب على الصدق، لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وغناه عنه.
  فإن قيل: إن هذا ينبني على أن الصدق والكذب يتساويان، فكيف يصح ذلك وأحدهما يستحق عليه المدح والثواب والآخر يستحق عليه الذم والعقاب؟.
  قيل له: أما ما ذكرتموه في الصدق فلا يصح، لأنه يجوز أن يكون في الصدق ما لا يستحق عليه المدح والثواب، ولهذا فإن أحدنا لو جلس طول نهاره يقول السماء فوقي والأرض تحتي فإنه لا يستحق المدح والثواب إن لم يستحق الذم والعقاب.
  وعلى أنه يجوز أن يكون في الصدق ما يستحق عليه الذم واللعنة، كأن يتضمن الدلالة على نبي وقد توارى عن عدوه.
  وأما ما ذكرته من الكذب، فهو وإن كان كذلك، إلا أنه لا يجوز أن يكون المرء ممن لا يبالي بالمدح ولا يحفل بالذم. هذا في الذم، وأما العقاب فإن من الجائز أن يكون المرء ملحدا زنديقا، لا يقر باللّه تعالى ولا باليوم الآخر، ولا يعتقد العقاب والثواب، ومع ذلك فلو علم قبح القبح واستغنى عنه لم يختره أصلا.
  وقد أجاب عن ذلك شيخنا أبو عبد اللّه البصري جوابا أدق من هذا فقال: إن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب وقيل له: إن صدقت أعطيناك درهما وإن كذبت أعطيناك درهما ودرهما آخر في مقابلة ما يستحقه من الذم على الكذب، فإنه لا يختار ذلك أيضا لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وبغناه عنه.
  فإن قيل: كيف يمكنكم قياس الغائب على الشاهد، ومعلوم أن أحدنا كما لا يختار القبيح إلا لجهله بقبحه وحاجته إلى ذلك، كذلك لا يختار الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة، فقولوا مثله في الغائب. ولئن فرقتم بين الموضعين في تلك المسألة، فافرقوا بينهما في هذه المسألة.