حقيقة العبث
حقيقة العبث
  اعلم أن العبث، كل فعل يفعله الفاعل من دون عوض مثله، وذلك نحو أن يركب أحدنا الأهوال والأخطار ليربح على درهم درهما، مع أنه يقدر على تحصيل هذا القدر بسهولة، ونحو أن يستأجر أجيرا بأجرة تامة ليصب الماء من نهر إلى نهر، من دون أن يكون له في ذلك غرض.
  إذا ثبت هذا، ومعلوم أن التكليف غير مفعول على هذا الوجه، فلم يجب أن يكون عبثا.
  يبين ذلك، أن غرض القديم تعالى بالتكليف ليس إلا تعريض المكلف للثواب، وذلك حاصل في هذا التكليف حصوله في تكليف من المعلوم من حاله أنه يؤمن.
  فإن قيل: إدلاء الحبل إلى الفريق مع العلم أنه لا يستمسك به، ودفع السكين إلى من المعلوم من حاله أنه يقتل به نفسه قبيح، وهذه صورة تكليف اللّه تعالى من المعلوم من حاله أنه يفكر، فيجب أن يكون قبيحا.
  قيل له: إن المدلى إليه الحبل، والمدفوع إليه السكين ينظر في حالهما، فإن كانا متمكنين من قتل أنفسهما قبل إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما ولكن المعلوم من حالهما أنهما لا يقتلان أنفسهما إلا عند إدلاء الحبل ودفع السكين، فإن إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما قبيح، لأنه يكون مفسدة، وإن كانا لا يتمكنان من الخنق والقتل إلا بهذا الحبل وهذا السكين ولا يتمكنان من التخلص إلا بهما، فإنه يحسن إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما لأنه يكون مفسدة، وإن كانا لا يتمكنان من الخنق والقتل إلا بهذا الحبل وهذا السكين ولا يتمكنان من التخلص إلا بهما، فإنه يحسن إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما لأنه يكون تمكينا، وهذا الأخير هو صورة التكليف، فلا يجب أن يكون قبيحا. وليس يجوز أن يقال: إن هذا التمكين قبيح لأنه كما هو تمكين من الحسن فهو تمكين من القبيح، لأنه لو قبح لهذا الوجه للزم أن يقبح كل تمكين في العالم، إذ التمكين من الحسن لا يتصور إلا وهو تمكين من القبيح، وهذا لأجل أن القدرة على الشيء قدرة على جنس ضده، فما من قدرة تمكن من أن يفعل بها الخير إلا ويمكن أن يفعل بها الشر.
  فإن قيل: إذا كان يقبح من اللّه تعالى أن يكلف زيدا إذا علم من حالة عمرو أنه يكفر عند تكليفه إياه، فلأن يقبح تكليفه مع العلم أنه نفسه يكفر أولى وأحرى.
  قيل له: ما ذكرته أولا إنما يقبح لأنه يكون مفسدة، وليس هذا الثاني من المفسدة في شيء، بل هو تمكين، فلا يجب قبحه على ما ظننته.