حقيقة العبث
  فإن قيل: إن القديم تعالى إذا ما كلفنا، فلا بد من أن يريد منا ما يتعلق به التكليف ليحسن منه تكليفه إيانا، والإرادة لا تتعلق بما المعلوم من حاله أنه لا يقع، فكيف يحسن من تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر.
  قيل له: إن هذا ينبني على أن الإرادة لا تتعلق بما المعلوم أنه لا يقع، وليس كذلك، فإن الإرادة تتعلق بما المعلوم أنه يقع وبما المعلوم أنه لا يقع على سواء.
  وقولهم: إنما يتعلق بما المعلوم أنه لا يقع تمنّ فقد أبطلناه لما تقدم، وذكرنا أن التمني من أقسام الكلام وليس كذلك الإرادة. يبين ذلك ويوضحه، أن الإرادة إذ تعلقت بالشيء، فإنما تتعلق به لصحة حدوثه، وما المعلوم أنه لا يقع كما المعلوم أنه يقع في صحة الحدوث، فكيف لا تتعلق به الإرادة والحال ما قلناه؟
  فإن قيل: نحن لا نسلم أن ما المعلوم أنه يقع كما المعلوم أنه يقع في صحة الحدوث، فإن القدرة على خلاف المعلوم محال عندنا.
  وجوابنا عنه، أنه لو كانت القدرة على خلاف المعلوم محالا، لكان يصح من القادر على الشيء أن يكون قادرا على الضدين، لأن المعلوم إنما يكون أحدهما لا محالة، وفي علمنا بأن القادر قادر على الضدين دليل على فساد ما قالوه.
  فإن قيل: ومن أين ثبت لكم أن القدرة تتعلق بالضدين، وأن القادر على الشيء لا بد أن يكون قادرا عليها؟
  قلنا: إن هذه المسألة قد استقصيناها فيما تقدم عند الكلام في الاستطاعة، ولا معنى لذكرها.
  فإن قيل: إذا كان غرض القديم تعالى بالتكليف نفع العباد وأن يصلوا إلى الثواب، فهلا كلفهم ما إذا أتوا به استحقوا المدح والثواب، وإذا لم يأتوا به لم يستحقوا الذم والعقاب؟
  قيل له: إن ما ذكرته هو النوافل، ولا يحسن التكليف بها ابتداء، إذ لا وجه لحسن التكليف بها إلا كونها مسهلة للفرائض داعية إليها، على أنا قد ذكرنا غير مرة، أن التكليف ليس الغرض به وصول المكلف إلى الثواب على كل حال، وإنما الغرض تعريضه إلى درجة لا تنال إلا به، وهذا حاصل سواء وصل المكلف إلى الثواب أو لم يصل.