شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

حقيقة العبث

صفحة 350 - الجزء 1

  فإن قيل: إنه تعالى إذا كلف الكافر وعلم من حاله أنه لا يؤمن فكأنه أمر بتجهيله، وذلك فاسد، وأيضا فقد كلفه ما لا يطيقه، لأن القدرة على خلاف المعلوم محال. وجوابنا، أن ما قلته أولا فلا يصح، لأن التجهيل هو ما يصير الشيء جاهلا، والإيمان لاحظ له في ذلك، وأيضا فإن القديم تعالى كما علم من حال الكافر أنه لا يؤمن، فقد علم من حاله أنه لو اختار الإيمان لقدر عليه، وهذا هو الذي يحتاج إليه المكلف في اختيار الإيمان، لا علم اللّه تعالى به. وأما ما ذكرته ثانيا، فقد أجبنا عنه، وبينا أن المعلوم أنه يقع، كما المعلوم أنه لا يقع في تعلق القدرة به، ففسد ما ذكرتموه.

  وقد أورد | وجها آخر على وجه الإيناس والتقريب، فقال: لو لم يكلف اللّه تعالى إلا من المعلوم من حاله أنه يؤمن كان ذلك إغراء بالقبيح، والإغراق بالقبيح قبيح. يبين ذلك ويوضحه، أن المرء إذا علم أنه لا يكلفه اللّه تعالى إلا وقد علم من حاله أنه يؤمن لا محالة وأنه يصل إلى الثواب كان مغرى بالقبيح، وذلك فاسد، وفي فساده دليل على أنه تعالى كما يكلف من المعلوم من حاله أنه يؤمن، فإنه يكلف من المعلوم من حاله أنه يكفر، ولا بد من ذلك ليعلم المكلف أن الأمر فيما ينفعه أو يضره موكول إلى اختياره ومفوض إليه، فإن أحسن الاختيار لنفسه واختار الإيمان تخلص من العقاب وظفر بالثواب، وإن أساء الاختيار واختيار الكفر استوجب من اللّه العقوبة.

  يحصل من هذه الجملة أن تكليف الكافر كتكليف المؤمن في الحسن ولا خلاف في هذا، وإنما الخلاف في وجه حسن تكليف اللّه تعالى من المعلوم أنه يكفر، فعندنا أنه إنما حسن تكليفه لأن اللّه تعالى عرضه لدرجة لا تنال إلا بالتكليف وهي درجة الثواب، وعند شيخنا أبي القاسم أنه إنما حسن تكليفه لأنه أصلح، وأراد بالأصلح الأنفع، حتى قال: إنه يحسن من اللّه تعالى تكليف زيد إذا علم أن عند تكليفه يؤمن جماعة من الناس وإن كان المعلوم من حاله أنه لا يؤمن، لأن الاعتبار بكثرة النفع، وذلك فاسد عندنا، لأن تكليف الغير لنفع الغير يكون ظلما، وإن بلغ ذلك النفع، ما بلغ لولا ذلك وإلا كان لا يكون في العالم ظلم، فما من شيء إلا وفيه نفع الظالم وأهل بيته، وفي عددهم كثرة.