إبطال أن كلام الله معنى قائم بذاته
  وقدرة وشهوة إلا أنه لا طريق إلى شيء من ذلك، ومن بلغ إلى هذا الحد فقد تناهى في الجهالة.
  فإن قيل: لم قلتم إنه لا طريق إليه؟ قلنا: لأن المعنى إذا لم يعلم ضرورة، فالطريق إليه إما أن يكون صفة صادرة عنه، أو حكما أوجبه هو، وليس هاهنا صفة تصدر عن الكلام الذي أثبتموه، ولا حكم له يتوصل به إلى إثباته، فإثباته والحال هذه يؤدي إلى ما ذكرناه.
  فإن قيل: إن أحدنا إذا أراد أن يتكلم فإنه قبل الكلام يجد من نفسه شيئا، ذلك الشيء هو الذي أثبتناه كلاما، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه. قيل له: إن ما ذكرتموه يمكن أن يرجع به إلى شيء آخر، وهو القصد إلى الكلام أو الإرادة له أو العزم عليه أو العلم به أو التفكير في كيفية ترتيبه، فإذا أمكن أن يرجع به إلى هذه الأمور، لم يجز أن ينصرف إلى ما ذكرتموه.
  وحكى عن بعض متأخريهم وهو ابن فورك الأصفهاني، أنه ذهب إلى أن المرجع بالكلام إلى الفكر، وهذا يوجب عليه أن يكون اللّه تعالى موصوفا بالتكلم، أو أن يكون متفكرا، تعالى اللّه عن ذلك. وهذا دخول منهم في المجوسية، فهم الذين جوزوا الفكر على الباري تعالى حيث قالوا: إنه تعالى فكر فكرة رديئة فتولد من فكرته الشيطان، فيكون ذلك أحد وجوه المضاهاة بينهم وبين المجوس.
  فإن قيل: أوليس أهل اللغة يقولون: في نفسي كلام، فكيف يصح ما ذكرتموه؟
  قلنا: إن ما ذكرتموه عكس الواجب، فإن الأصل أن تثبت المعاني أولا ثم يعبر عنها بعبارات، وأنتم فقد جعلتم العبارات طريقا إلى إثبات المعاني ووصلة إليها، وذلك مما لا وجه له، لأنه لو لم يخلق العرب أو خلقهم خرسا، لكان لا بد من أن يمكننا معرفة الكلام وماهيته، وعلى ما قالوه لا يتصور ذلك.
  وبعد، فإن العرب كما تقول: في نفس كلام، فقد تقول في نفسي: بناء دار، أو حج بيت اللّه تعالى، أو زيارة قبر رسول اللّه، فكان يجب أن تكون هذه الأفعال كلها معاني في النفس قائمة بذات فاعلها والمعلوم خلافه.
  فإن قيل: إن مرادهم بذلك، في نفسي العزم على بناء دار، وعلى حج بيت اللّه تعالى، إلى ما شاكل ذلك، قلنا: فارض بمثل هذا الجواب.