شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

الكلام في الخلق والمخلوق

صفحة 374 - الجزء 1

  المتكلمين دون بعض، كما في كونه عالما، فإنه لما كان عالما لذاته، وكانت المعلومات غير مقصورة، وجب أن يكون عالما بسائر المعلومات، فكان يجب أن يكون متكلما بالحسنى والرفث والكذب، وأن يكون شاتما لنفسه ومثنيا على نفسه سوء الثناء، تعالى اللّه عن ذلك، ولوجب أن يكون مخبرا عن كل ما يصح الأخبار عنه، والمعلوم خلافه، فإنه تعالى قال: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}⁣[غافر: ٧٨].

  وأيضا، فلو كان القديم تعالى متكلما لذاته لوجب أن يكون مكلما لذاته، لأن المكلم إنما يكون مكلما بما به يكون متكلما، وذلك يوجب أن يكون اللّه تعالى قد كلم المخلوقين أجمع جهرة، وذلك محال، وما أدى إليه ويقتضيه يجب أن يكون محالا.

  فإن قيل: أليس أنه تعالى قادر لذاته عالم لذاته، ثم لا يجب أن يكون معلما لذاته مقدرا لذاته، فهلا جاز أن يكون متكلما لذاته ولا يكون مكلما لذاته. وجوابنا عن ذلك، أن هذا لا يصح، لأنا قد احترزنا عن ذلك بقولنا: إنه إنما يكون مكلما بما به يكون متكلما، وليس كذلك هاهنا، لأن المقدر إنما يكون مقدرا بخلق القدرة، والمعلم إنما يكون معلما بخلق العلم، ولم يثبت أنه خالق العلم والقدرة لذاته، ففسد قياس أحدهما على الآخر.

  فإن قيل: إنما يجوز في المتكلم أن يكون كاذبا إذا لم يثبت كونه صادقا لذاته، وقد ثبت كون القديم تعالى صادقا لذاته فاستحال عليه الكذب، وصار الحال فيه كالحال فيما نقوله في كونه حيا أنه يصحح كونه جاهلا وإنما يصحح ذلك بشرط أن لا يكون عالما لذاته، كذلك هاهنا. وجوابنا عن ذلك، أن الدليل قد دلنا على أنه تعالى عالم لذاته فاستحال كونه جاهلا، ولم يثبت ذلك في كونه صادقا، فصح قولنا أنه تعالى لو كان متكلما لذاته لم يكن بأن يكون صادقا لذاته أولى من أن يكون كاذبا لذاته.

  فإن قيل: إنه بأن يكون صادقا لذاته أولى، لأنه أخبر عن أشياء وكان كما أخبر، قلنا: وما تلك الأشياء؟ قالوا: خلقه السماوات والأرضين، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}⁣[ق: ٣٨] وكان كما أخبر، قلنا: أليس قد قال ذلك فيما لم يزل ولم يخلق السماوات والأرضين، فهلا حكمتم عليه بالكذب.

  وأيضا فما أنكرتم أن يكون غرضه بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}⁣[ق: ٣٨] سماوات وأرضين لم يخلقها بعد، فيكون كاذبا على ما قلناه، تعالى اللّه عن ذلك