الكلام في الخلق والمخلوق
  علوا كبيرا.
  وبعد، فلو كان اللّه تعالى متكلما لذاته، لكان يجب أن يكون قائلا فيما لم يزل:
  {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ}[نوح: ١] وإن لم يكن قد أرسل، وأهلك عادا وثمودا وإن لم يكن قد أهلك.
  فإن قيل: ما أنكرتم أن المواد بقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ} أي سنرسل، وأنه {أَهْلَكَ عاداً}[النجم: ٥٠] أي سنهلك عادا، جريا على طريقة أهل اللغة، فإنهم يذكرون لفظ الماضي ويريدون به الاستقبال نحو قوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ}[الأعراف: ٤٤]. وجوابنا عن ذلك، أن الإرادة والكراهة إنما يؤثران في صفات الأفعال، فأما في صفات الذات فلا، وعندكم أن كونه متكلما من صفات الذات، فكيف يصير كونه مخبرا عما مضى كونه مخبرا عما يستقبل بالإرادة؟ وبعد، فلو كان المراد بقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً} أي سنرسل، لكان يجب أن لا تتغير فائدته الآن، حتى يكون غرضه، وأنه أرسل نوحا وأهلك عادا، أنه سيرسله ويهلكهم، وذلك يقتضي كونه كاذبا تعالى اللّه عن ذلك.
  فإن قيل: ألستم تقولون: إن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده متى وجد، فهلا جاز أن يكون الإخبار بأن الشيء سيكون، خبرا عن كونه إذا كان. وجوابنا أنه لا يصح قياس أحدهما على الآخر، لأن الدلالة قد دلت على أن العلم بأن الشيء سيوجد، علم بوجوده، متى وجد، وأن المعلوم يتغير لا العلم، ولم يقم مثل تلك الدلالة هاهنا، بل قد علمنا أن الخبر الموضوع للدلالة على الماضي غير الخبر الموضوع للدلالة على الاستقبال، كما أن صيغة الخبر في الجملة، مخالفة لصيغة الأمر، فافترقا.
  ومن خالف في هذا الباب فقد تعلق بأن قال: لو لم يكن القديم تعالى متكلما فيما لم يزل، لكان يجب أن يكون أخرس أو ساكتا، كما في الشاهد فإن أحدنا إذا لم يكن متكلما يجب أن يكون على أحد هذين الوجهين.
  وربما يوردون هذا على وجه آخر، فيقولون: قد ثبت أنه تعالى حي، فيجب أن لا يخرج عن كونه متكلما إلا إلى ضد هذه الصفة، وضد الكلام هو الخرس والسكوت، فيجب أن يكون أخرس أو ساكتا، وفي علمنا باستحالة أن يكون اللّه تعالى موصوفا بالخرس والسكوت دليل على أنه لا بد من أن يكون متكلما لذاته على ما