شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

فصل آخر

صفحة 382 - الجزء 1

  إلينا الرسل ليعرفونا ذلك من حال هذه الأفعال، فيكونوا قد جاءوا بتقرير ما قد ركبه اللّه تعالى في عقولنا، وتفصيل ما قد تقرر فيها، وصار الحال في ذلك كالحال في الأطباء إذا قالوا إن هذا البقل ينفع وذلك يضر وكنا قد علمنا قبل ذلك أن دفع الضرر عن النفس واجب، وجر النفع إلى النفس حسن، فكما لا يكون والحال ما قلناه قد أتوا بشيء مخالف للعقل، فكذلك حال هؤلاء الرسل.

  يبين ما ذكرناه، أن اختلاف الطريق لا يقدح في حصول ما يكون طريقا إليه، فسواء علمنا عقلا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة، أو علمناه سمعا، فإنا في الحالين جميعا نعلم وجوب هذا وقبح ذلك.

  يزيد ما ذكرناه وضوحا، أنه إذا كان تقرر في عقولنا وجوب دفع الضرر عن النفس معلوما كان أو مظلوما، ثم أخبرنا مخبر بأن في الطريق سبعا، فإنا نعلم وجوب الاجتناب من سلوك ذلك الطريق، ثم لا يقال أنه إذ أتي بما في العقل ففي العقل كفاية عنه، وإن أتي بخلافه فيجب الرد عليه، فكذلك الحال في ما أتى به الرسل، فبطل ما قالوه أولا.

  وأما ما ذكروه ثانيا، من أن هذه الأفاعيل كلها قبيحة في العقل فأبعد، لأنا قد ذكرنا أن مجرد الفعل لا يمكن أن يحكم عليه بالقبح والحسن، حتى لو سألنا سائل عن القيام هل يقبح أم لا، فإنه مما لا يمكننا إطلاق القول في الجواب عن ذلك، والواجب أن نقيد فنقول: إن حصل فيه غرض وتعرى عن سائر وجوه القبح حسن، وإلا كان قبيحا هذا وإذا كان، هكذا وكنا قد علمنا بقول الرسول المصدق بالمعجز أن لنا في هذه الأفعال مصالح وألطافا فكيف يجوز أن يحكم فيها بالقبح، يبين ذلك ويوضحه، أنا نستحسن القيام في كثير من الحالات نحو أن يكون تعظيما لصديق أو يتضمن غرضا من الأغراض، وكذلك القعود إذا تضمن انتظار الرفيق، وكذلك الركوع والسجود والمشي والكلام والطواف وغير ذلك، فما من شيء من هذه الأفاعيل إلا ولها وجه في الحسن إذا تعلق به أدنى غرض، فإذا كان يحسن منا الطواف حول البيت لننظر هل اشترم أم لا، وهذا غرض حقير، فكيف لا يحسن الطواف حول بيت اللّه تعالى وقد تضمن من المصلحة واللطف ما قد قامت به الدلالة، وهكذا فإذا كنا نرمي صيدا مع أن النفع فيه يسير، ثم تستحسن الهرولة إليه كيلا ينفلت فكيف لا تستحسن في أعمال الحج؟ وقد علم اللّه فيها من المصالح ما قد أظهره على لسان رسوله .

  فدل على أن ما قالوه في هذا الباب مما لا وجه له. وليس لأحد أن يقول: كان