شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

ترك العرب معارضة القرآن

صفحة 400 - الجزء 1

  قيل له: إن القرآن لا يختص بذكر القصص دون ما سواها بل كان مشتملا على كثير من أنواع الكلام، فلو كانت المعارضة ممكنة لهم لأتوا بسائر أنواع الكلام وجعلوها معارضة للقرآن، ولم يأخذهم في الأول باعتقاد تلك الأقاصيص وأنها كانت كما ذكر، بل ورضى من جهتهم بأن يضعوا من عندهم قصصا ويكسونها من العبارات الجيدة العظيمة الجزلة ما يقارب القرآن في الفصاحة ويدانيه، وليلتبس الحال فيه، فلا معنى لما ذكرتموه.

  وأيضا، فلا إشكال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتحدى اليهود بذلك، وفيهم العلماء بالأخبار والعارفون بالأقاصيص، حتى أن كل قصة مجهولة تقص في عالم اللّه تعالى تنسب إليهم وتؤخذ منهم.

  وبعد، فإن العرب قد بعثوا إلى الفرس يطلبون منهم القصص، نحو قصة رستم واسفنديل، وجمعوا من ذلك شيئا كثيرا، ثم عجزوا في الآخرة أن يجعلوه معارضة القرآن، فصح سقوط ما أوردوه.

  فإن قيل: أكبر ما في هذه الجملة التي أوردتموها، أن القرآن قد بلغ في الفصاحة حدا لا يتمكن العرب من معارضته، وذلك لا يوجب كونه معجزا دالا على نبوته، فإن من الجائز والحال ما ذكرتموه أن يكون القرآن من جهته لتقدم له في معرفة الفصاحة، ولهذا قال: «أنا أفصح العرب». وما الحال فيما أتى به ، كالحال فيما يأتي به بعض من تميز في صناعة من الصناعات، فكما أنه لا يستحق بهذا القدر النبوة ولا يدل على أنه مبعوث من جهة اللّه جل وعز، فكذلك الحال فيما نحن فيه.

  قيل له: ليس الأمر على ما ظننته، فإنه يستحيل فيمن نشأ بين جماعة يتعاطون البلاغة ويتباهون بالفصاحة أن يتعلمها ويأخذها منهم، ثم يبلغ فيها حدا لا يوجد في كلام واحد منهم بل في كلام جماعته فصل يساوي كلامه في الفصاحة، أو يدانيه أو يقرب منه أو يشتبه الحال فيه، وهذا الحال حال القرآن مع سائر كلامهم، فلا بد من أن تكون قد انتقضت فيه عاداتهم، ولن يكون كذلك إلا ويتضمن الدلالة على صدق من ظهر عليه، سواء كان من جهة اللّه تعالى أو من جهته على ما مضى، وقد ذكرنا أنه ليس من قضية المعجزات أن تكون من جهة اللّه تعالى على كل حال، وهكذا الحال في سائر الصناعات عندنا، فلو نشأ غلام فيما بين جماعة من الصناع وتعلم منهم الصناعة، ثم بلغ في العلم بالصناعة مبلغا لا يوجد في أعمالهم عمل يساوي عمله ولا يقاربه ولا يدانيه، ثم ادعى هو لأجله النبوة، فإنه لا بد من أن يصدق، لمكان ما آتاه اللّه تعالى