شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

مناقشة حول الاستثناء والعموم والخصوص:

صفحة 447 - الجزء 1

  في مثاله قوله: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وله نظائر أخر في القرآن ومنه قوله: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ٢٤١} بعد قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} فإحدى الجملتين عامة شاملة للمالكات البالغات وغيرهن، والأخرى خاصة بالبالغات المالكات لأمر أنفسهن، إذ العفو لا يصح إلا منهن، ولم يمنع عموم إحداهما من خصوص الأخرى، فكذلك الحال هاهنا.

  فإن قيل: لا ظاهر لهذه الآية، لأن في الآية لفظة إن، وهي لتحقيق الحال، ولذلك يدخل في خبره اللام فيقتضي أن يكون المرء معاقبا في الحال، وخلافه معلوم، فليس إلا أن يعدل عن الظاهر، فإذا عدلتم عن الظاهر وأخذتم في التأويل فلستم بأولى منا فنحمله على الاستحقاق.

  وجوابنا عن ذلك، ليس الأمر على ما ظننتموه، لأن «إن» كما يرد يرد لتحقيق الحال فقد يرد لتحقيق الخبر في المستقبل. بل الخبر في المستقبل إلى التحقيق أحوج إليه منه في الحال، وعلى هذا قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أورد في الكلام لفظة «إن» وأدخل اللام في خبره، ولم يقصد به إلا تحقيق الحكم في المستقبل.

  وبعد، فإن في الآية لفظة الخلود، والخلود لا يتأتى إلا في المستقبل، فكيف يقال إن ظاهر الآية يوجب أن يكون المجرم معذبا في الحال؟

  وبعد، فإن أكبر ما فيه أن حمله على ظاهره لا يمكن، أوليس لا بد من أن يحمل على المجاز الأقرب دون الأبعد، فقد بينا أنه لا يجوز حمل خطاب اللّه تعالى على المجاز الأبعد مع إمكان حمله على المجاز الأقرب، وأن حال المجاز الأبعد مع المجاز الأقرب كحال المجاز مع الحقيقة، فكما أنه لا يحمل كلام اللّه تعالى على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة، كذلك هنا. وإذا كان هذا هكذا، ومعلوم أن حمله على أن يعذب في مستقبل الأوقات حمل له على المجاز الأقرب، وليس كذلك الحال في ما إذا حمل على الاستحقاق.

  ومما يمكن الاستدلال به من عمومات الوعيد في كتاب اللّه تعالى كثير، فإنه يمكن أن يستدل بقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية، ويمكن الاستدلال بقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ويمكن أن يستدل بقوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ١٤} الآية، وفي ذلك كثرة على ما ذكرناه.