شرح الأصول الخمسة،

أحمد بن الحسين مانكديم (المتوفى: 420 هـ)

نطق الجوارح:

صفحة 504 - الجزء 1

  الذي ذكرنا، هو أنه إن وجب عقلا فإما أن يجب للنفع أو لدفع الضرر، ولا يجوز أن يجب للنفع لأن طلب النفع لا يجب فلأن لا يجب الإيجاب لأجله أولى، فليس إلا أن يكون وجوبه لدفع الضرر على ما نقوله.

  فإن قيل: هلا جاز أن يكون الوجه في وجوبه هو أن لا يقع المنكر ولا يضيع المعروف فيكون وجوبه معلوما عقلا فإن ذلك أمر معقول؟ قيل له: لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يمنعنا اللّه تعالى عن المنكر ويلجئنا إلى المعروف، ومعلوم خلافه.

  فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون الوجه في وجوبه كونه لطفا لنا ومصلحة؟.

  قلنا: إن هذا وإن كان هو الوجه في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غير أنا لا نعلم ذلك من حاله إلا بالشرع، لأنه ليس في قوة العقل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدعونا إلى الواجب ويصرفنا عن القبيح.

  فإن قيل: أو لستم قد عرفتم بالعقول أن معرفة اللّه تعالى لطف، وأن نعته من هو كافر في الحال أو كان كافرا من قبل مفسدة، فهلا جاز مثله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلنا: إن هذا اقتراح على العقل وذلك مما لا وجه له، فليس يجب إذا علمنا أمرا من الأمور عقلا، بأن قرر اللّه تعالى في عقولنا، أن نعلم أيضا بالعقل ما لم يقرره فيه، ففسد هذا الكلام.

  يبين ذلك، أن ما قالوه جمع بين أمرين من غير علة جامعة بينهما، فيقال لهم:

  ما أنكرتم أنا إنما علمنا كون المعرفة لطفا لنا بالعقل، لأنه قرر تعالى كونه لطفا في عقولنا، وهذا غير ثابت فيما نحن فيه، فلا يجب أن نعلمه أيضا بالعقل.

  وأما ما يقوله أبو علي في هذا الباب، فهو أنه لو لم يكن الطريق إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العقل، لكان يجب أن يكون المكلف مغرى بالقبيح، ويكون في الحكم كمن أبيح له ذلك، فليس يصح، لأن ذلك يقتضي أن لا يجب واجب ولا يقبح قبيح إلا والطريق إلى وجوبه أو قبحه العقل، والإلزام أن يكون المكلف مغرى على القبيح وعلى الإخلال بما هو واجب عليه، ويكون كأنه أبيح له ذلك، ومعلوم خلاف ذلك.

  يبين ذلك ويوضحه، أن وجوب الصلاة وقبح الزنا إنما نعلمه شرعا، ثم لم يقتض أن يكون المرء من قبل كان مغرى على القبيح أو الإخلال بالواجب، أو يكون في الحكم كمن أبيح له شيء من ذلك.