شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

(القول في تكليف ما لا يطاق)

صفحة 162 - الجزء 1

  {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}⁣[البقرة: ٢٨٦]، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}⁣[الطلاق: ٧]، وبقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}⁣[التغابن: ١٦].

  قوله: (إذ صار لا تجري عليه الفاقة): تنبيه على أن الظلم، وفعل القبيح لا يجوز إلا ممن تجوز عليه الحاجة، ومعنى الفاقة والحاجة واحد، وقد ثبت بما تقدم أن الله - تعالى - غني عن كل حسن وقبيح، وأن الحاجة مستحيلة في حقه، ولا يحمل على فعل القبيح إلا الحاجة، وقبح تكليف ما لا يطاق معلوم ضرورة لكل عاقل.

  فتحرير الدلالة في هذه المسألة أن نقول: تكليف ما لا يطاق قبيح والله - تعالى - لا يفعل القبيح.

[بيان أن تكليف ما لا يطاق قبيح]

  أما الأول: وهو أن تكليف ما لايطاق قبيح: فذلك معلوم ضرورة.

  ألا ترى أن كل عاقل يستقبح من أحدنا أن يقيد عبده ويصله ويهبطه إلى البير، ثم يكلفه الصعود منها بغير آلة ولا فك، ومن أخبرنا من نفسه، أنه لا يعلم قبح ذلك من نفسه، قضى جميع العقلاء بكذبه أو جهله، وما قبح ذلك من أحدنا لوجه من الوجوه سوى أنه تكليف لما لا يطاق، بدليل أنه لو كلفه الصعود، وأهبط إليه الرشاء، وحلّ وثاقه وقَيْدَهُ، وعلم أنه ممن يمكنه مع ذلك الصعود، لما قبح ذلك عند أحد من العقلاء؛ بل يعلم الجميع إستحقاق العبد للذم إذا لم يفعل ما أمره به مولاه.

  وأما الأصل الثاني: وهو أن الله - تعالى - لا يفعل القبيح: فقد تقدم بيانه.

  قوله: (ولم يرد سبحانه إرهاقه): يقول: لم يرد سبحانه تكليفه ما لا يمكنه، و (الإرهاق): هو إلحاق الغير المشقة، والرَّهاق في أصل اللغة: هو اللحاق، يقول قائلهم: رَهقك الفارس إذا غشيك.

  قوله: (جلَّ فما أرحمه من والي): معنى جلَّ وعلى وعظم عن أن يشبهه شيء.

  (ما أرحمه): تعجب من سعة رحمته، ورحمته سبحانه لا تنحصر بالعد، ولا يُنْتَهى فيها إلى حد، يكون منها أنه لم يكلف عبيده ما لا يطيقون، فكلفهم دون ما يطيقون،