الحجج المنيرة على الأصول الخطيرة
  بالله رَبِّ العالمين القاسمُ بْنُ محمدٍ @(١).
  قلت: وعند التحقيق مفاد أحاديث العرض لا يأباه أحدٌ مِنْ عُلماءِ الإسلام، وإنما نَشَأَ الخلافُ فيه مِنْ عَدَمِ التدبرِ لمعناه، والوقوفِ عَلَى حقيقته ومَرْمَاه، وذلك أَنَّه تَبَادَرَ إلى أَذْهَانِ الكثيرِ خلافُ المقصودِ مِن الموافقةِ والمخالفة، فَحَمَلوا قولَهُ: «وَمَا خَالَفَ» عَلَى المغايرةِ وَعَدَمِ المماثلة، فَلَزِمَ عندهم أَن لا يُقْبَلَ مِن السُّنَّةِ إلَّا ما كان في القرآنِ مثلُهُ، فلم تَبْقَ السُّنَّةُ عَلَى مقتضاه إلَّا مُؤكِّدَة، وذلك خلافُ المعلوم.
  وليس الأمرُ كما تَصَوَّرُوه، بل الموافقةُ: المماثلة، والمخالفةُ: المعارضةُ والمناقضة.
  هذا الذي تَقتضيه العربيةُ.
  ومنه يُعْلَمُ أَنَّ أَحاديثَ العَرْضِ لم تَحْصُرْ ما في السُّنَّةِ عَلَى الموافقةِ والمخالفة، وأَنَّ ثَمَّةَ قِسْمًا ثالثًا لا يُوصَفُ بموافقةٍ ولا مخالفة، فَمَا صَحَّ منه أُخِذَ؛ لدلالةِ نحوِ قولِهِ تعالى: {وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ}[الحشر ٧].
  وقد تكلمتُ في (فصل الخطاب في خبر العرض على الكتاب)، ولخصتُ ما تَحَصَّلَ بما فيه كفايةٌ إن شاءَ اللَّهُ تعالى.
  وَيُعْلَمُ أيضًا أنْ ليس مقصودُ الرسولِ ÷ وأَئِمَّةِ أهلِ البيتِ $ مِن العَرْضِ إلَّا رَدَّ مَا كُذِبَ عَلَى اللَّهِ تعالى ورسولِهِ، وحينئذٍ فهو ما قَضَتْ به الحجج، ونَطَقَتْ به الدلائل، فكتابُ اللَّه تعالى المرجِعُ والمفزع {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٤٤}[المائدة] الآيات.
  روى الإمامُ الناصرُ أبو الفتحِ الديلميُّ # عن الحارثِ الهمدانيِّ قال:
  كنتُ مررتُ في المسجدِ فإذا الناسُ يخوضونَ في الأَحاديثِ، فدخلتُ عَلَى أَميرِ المؤمنين عليِّ بن أبي طالب #، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين أَلا تَرَى الناسَ قد خاضوا
(١) في (الاعتصام بحبل الله المتين) (١/ ٢١)، وانظر أيضًا (١/ ٢٤)، ط: (مكتبة اليمن الكبرى).