[بحث في نفي الرؤية عن الله تعالى]
  وَالْمَوَانِعُ مُرْتَفِعَةٌ(١).
  وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَقَوْلُهُ جَلَّ شَأنُهُ: {لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٠٣}[الأنعام].
  فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَمَادِحِ الإِلَهِيَّةِ عَدَمَ إِدْرَاكِ الْمُبْصِرِينَ بِالأَبْصَارِ لَهُ(٢).
(١) ذكر الإمام الحجة مجدالدين المؤيدي # دليلين من الأَدلة العقلية على نفي رؤية الباري تعالى، هما دليل المقابَلة، ودليل الموانع، أمَّا دليل المقابلة فتحريره كما ذكره، وأما دليل الموانع، فكما قال شارح (العقد الثمين): «وتحرير دليل الموانع مبني على أصلين: أحدهما: لو كان الباري تعالى يُرَى في حالٍ من الأحوال لرأيناه الآن، الثاني: أنَّا لا نَرَاه الآن.
أما الأصل الأول: وهو أنه لو رؤي في حال من الأحوال فتصحيحه مبني على ثلاثة شروط قد حصلت، وهي: أن الحواس سليمة، والموانع مرتفعة، والباري موجود. أما أنَّ الحواسَّ سليمةٌ، فمعلومٌ أنَّ أَحَدَنَا عَلَى الصفة التي معها يَرى المرئيات، وهي سلامةُ حاسَّةِ البَصَر.
وأَمَّا أَنَّ الموانعَ مرتفعةٌ؛ فلأَنَّ الموانعَ ثمانيةٌ، يجمعُهَا قولُ الإمامِ المهدي #:
حِجَابٌ وَبُعْدٌ رِقَّةٌ وَلَطَافَةٌ ... وَفَقْدُ مُحَاذَاتٍ حُلُولٌ بِبَعْضِهَا
وَسَابِعُهَا قُرْبٌ كَمِيْلٍ بِمُقْلَةٍ ... وَفَقْدُ الضِّيَا كَالَّليلِ فَاعْنَ بِحِفْظِهَا
الحجاب: الكثيف، والقُربُ المفرِطُ: كالميل في العين، والْبُعْدُ: المفرط، وكونُ المرئي لطيف الجسم: كالجوهر الفَرْدِ، أو رقيقه كالملائكة $، وكونه غير مقابل للرائي، وكونه حَالًّا في أحد هذه المذكورات كاللون فيما قرب أو بعد أو نحوهما، والثامن: فقد الضياء المناسب للعين: كالظلمة. والذي يدل عَلَى ارتفاعها أنَّها لا تصحُّ إلا في الأجسام، والله ليس بجسم. وأما أنَّ الباري موجودٌ فمعلومٌ، فكملت الثلاثة الشروط، وبكمالها صحَّ الأصلُ الأول. وأما الأصل الثاني: وهو أنَّا لا نراه الآن، فذلك معلوم، ولا منازع فيه. فثبت أنه تعالى لا يُرى في الآخرة؛ لعدم رؤيته الآن، فهذا دليل الموانع» انتهى.
(٢) أي أنَّ الله تعالى تمدَّح بأنَّ المبصرين بالأبصار لا يُدْرِكُونه، أي لا يَرونه، وإنَّما ذكر مولانا الإمام مجدالدين المؤيدي # المبصرين بالأبصار، ردًّا عَلَى الرازي وغيره في معنى الأبصار في الآية الكريمة. واعلم أيُّها المسترشد الكريم أن نفي الله تعالى لأنْ تَرَاهُ الأبصارُ، وكون هذا من الممادح المضافة إلى الذات، المستلزم إثبات نقيضها إثبات النقص والذم له تعالى: هو على جهة العموم والشمول لكل الأحوال والأوقات والأزمنة والأمكنة، واستغراق جميع الأفراد لأنْ تراه الأبصار، فقال: {لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ}؛ لأنَّ الأبصارَ جمعٌ مُعَرَّفٌ بالألف واللام فيعمُّ ويَشملُ جميعَ الأَفراد في الطرفين: الأوقات والأشخاص بلا مخصص، قال في (العقد الثمين) وشرحه (الكاشف الأمين): «[فَنَفَى] بذلك أَن تدركَهُ الأبصار [نَفْيًا عَامًّا لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَلِـ] جميع [أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] فاقتضى ذلك العموم والشمول لجميع الأفراد في الطرفين: الأشخاص، والأوقات من حيث أن حرف النفي إذا دخل على الفعل المضارع نفاه على سبيل الإطلاق من دون تقييد بوقت دون وقت، وكذا أل التعريف إذا دخلت عَلَى اسم الجمع أفادت العموم لجميع أفراده، وهذا لا ينكره الخصوم»، انتهى.