[الخاتمة]
  شاب بعدي؟ قال: قد نبت الرّبيع على دمنيه(١)، فقلت: إنّا للّه، ونفسي في سبيل اللّه، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه، ومددت يد البدار، إليّ الصّدار، أريد تمزيقه(٢)، فقبض السّواديّ على خصري، وقال: أنشدك اللّه لا مزّقته، قلت: هلمّ إلي البيت نصب غداء، أو إلى السّوق ونشتري شواء، والسّوق أقرب، وطعامه أطيب، فاستفزّته حمة القرم، وعطفته اللّقم(٣)، فطمع، ولم يدر أنّه وقع، ثمّ أتينا شوّاء يتقاطر شواؤه عرقا، وتتسايل جوانبه مرقا، وقلت له زن لأبي زيد من هذا الشّواء، ثمّ زن له من تلك الحلوى، واختر له من تلك الأطباق، ونضّد عليه ورقّا من الرّقاق، وشيئا من ماء السّماق(٤)، ليأكله أبو زيد هنيّا، فأتى الشّوّاء بشواه، ثمّ جلس وجلست، وما نبس وما نبست، حتّى استوفيناه، وقلت لصاحب الحلوى: زن لأبي زيد من اللّوزينج رطلين فهو أجرى في الحلق، وأمرى في العروق، ليليّ العمر، يوميّ النّشور(٥)، رقيق الجلد، كثيف الحشو، لؤلؤيّ الدّهن، كوكبيّ اللّون، يذوب كالصّمغ، قبل المضغ، وقعدت، وجوّد وجوّدت، حتّى استوفيناه، ثمّ قلت: يا أبا زيد ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثّلج، ليقمع هذه الصّارّة، ويعبأ هذه اللّقم الحارّة(٦)، اجلس يا أبا زيد حتّى آتيك بسقّاء، يحشو بثلجه الماء، وخرجت وجلست بحيث أراه ولا يراني أنظر ما يصنع، فلمّا
(١) المراد بالدمنة القبر، والربيع هنا: النبات، وكنى بذلك عن موته منذ عهد ليس بالقصير.
(٢) البدار: المبادرة والمسارعة، والصدار: ثوب يلبس مما يلي الجسد، والمعنى أنه حين سمع بموت أبيه بادر إلى ثوبه ليمزقه؛ إظهارا للجزع، وتأكيدا للحيلة بأنه صديق أبيه.
(٣) استفزته: استهوته وحركته بشدة، والحمة في الأصل: أبرة العقرب التي تلسع بها، ثم حملت على الشدة مطلقا، والقرم: الشهوة البالغة لأكل اللحم، واللقم: السرعة في الأكل، والمعنى أن شدة حبه للطعام وعظيم شوقه إليه أسرعا به إلى موافقتي.
(٤) السماق: حب صغير أحمر حامض يعتبر من المشهيات.
(٥) اللوزينج: نوع من الحلوى يتخذ من الخبز، ويسقى بدهن اللوز، ويحشى بالعسل، ومعنى كونه ليلى العمر أنه صنع ليلا، ومعنى كونه نهارى النشر أنه قد ظهر نهارا، ليكون - بعد مضى هذا الوقت - قد شرب دهنه وعسله.
(٦) يشعشع: يخلط، ومن ثم قيل للخمر: مشعشعة؛ لأنها تشرب مخلوطة بالماء كثيرا، قال عمرو بن كلثوم:
مشعشعة كأنّ الحصّ فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا
والصارة: شدة الحر، والمعنى إننا في حاجة إلى الماء المخلوط بالثلج، ليرد عنا سطوات الحر، ويخفف من حدة هذا الأكل في أجوافنا.