[الخاتمة]
  أبطأت عليه قام السّواديّ إلى حماره، واعتلق الشّوّاء بإزاره(١)، وقال: أين ثمن ما أكلت؟ فقال: أكلته ضيفا(٢)، فقال هاك وهاك، متى دعوناك(٣)؟ زن يا أخا القحبة عشرين(٤)، ولا أكلت ثلاثا وتسعين، فجعل السّواديّ يبكي ويمسح دمعه بأردافه ويحلّ عقدة دراهمه ويقول: كم قلت لذاك القريد، أنا أبو عبيد، ويقول:
  أنت أبو زيد، وأنشأ يقول:
  أعمل لنفسك كلّ آله ... لا تقعدنّ بذلّ حاله(٥)
  وانهض لكلّ عظيمة ... فالمرء يعجز لا المحاله(٦)
  وأمّا مقامتي فإنّها: أخبرنا سنان الحشائي، قال: ضقت بالحال ذرعا، فأزمعت الجوب إلى صنعا، فلمّا أنخت بناديها، وفحصت عن حاضرها وباديها، ألفيتها أنسة المربع، مطابقة للشاتي والمربع، جمعت أفنان المطالب النفيسة، فهي تثلج الجلد وتحسم رسيسه:
  ففي سوقها الخلخال والشفّ رايح ... وفيها الهوى والحسن راق ورائق
  وكم حدق تصبي النفوس لغيدها ... وكم ضحكت في جانبيها الحدائق
  فلما بهرني حشدها، وخالجني رشدها، يمّمت واعظا يغسل عنّي صداء الغفلة، أو قاضيا لا ينصب للرشاء حبله، فانتهى بي الخاطر الحاضر، إلى زرافات تملأ الناظر، ورأيت شبّانا وشيبا، يؤمون في الربض خطيبا، فمن معتق ومرمل، وحاسر ومزمّل، والناس في حيص بيص، كأنّما لهم قام منشدا أبو
(١) اعتلق: تعلق وأمسك، أي أن الشواء لم يتركه يخرج، بل أمسك به ليستوفى حقه منه.
(٢) أكلته ضيفا: أي كنت مدعوا لتناول هذا الطعام، فلا يحل لك أن تطالبني بثمنه؛ لأن الضيف لا يدفع ثمن ما أكل.
(٣) هاك: اسم فعل بمعنى خذ، والمعنى: تناول من الضرب واللكم ما أنت به خليق.
(٤) القحبة: الزانية المحترفة، ومعنى زن عشرين: أعط وزن عشرين درهما.
(٥) المعنى: لا تسكن خائر القوى فتقعد عن طلب الرزق وأنت تعلم أنه لا يأتيك حتى تعمل له، ولا يقبل عليك حتى تسير إليه، بل أجهد نفسك، وادأب في السعي إليه، ولا تدخر وسعا في تحصيله.
(٦) أي أنه لا بد أن يأتي على المرء يوم يعجز فيه عن القيام بحاجته؛ فانتهز فرصة شبابك وقوتك، واغتنم من فتوتك وحداثة سنك ما يساعدك على القيام بعظائم الأمور، وجلائلها. شرح مقامات بديع الزمان الهمداني ٦٩ - ٧٣ وفيها اختلاف يسير.