[69] أبو المعالي، درويش بن محمد الطالوي
  السيّارة من النجوم، وأنا لا أقدر أن أنهض ولا أقوم، لعارض تحكّم في الأعصاب منع قوائمي من حركة الانتصاب، وكان والدي رئيس قرية سيدي حبيب النجار، وله كرم خير وطيب نجار، فاتخذ قرب مزار سيدي حبيب رباطا للواردين وبنى فيه حجرات للفقراء المجاورين، ورتّب لها في كل صباح من الطعام، ما يحمله إليها بعض الخدّام، وكنت أحمل كل يوم إلى صحن الرباط فأقيم فيه سحابة يومي، وأحمل إلى منزل والدي عند نومي، وكنت إذ ذاك حفظت القرآن، وكفيت مقدمات تثقيف اللسان، وأنا لا أفتر في تلك الحال عن مناجاة قيّم العالم في سرّي، ومبدع الكل فيما إليه تؤول عاقبة أمري، فبينا أنا كذلك إذ برجل جاء من أقصى المدينة يسعى كأنه ينشد ضالّة أو أضلّ المسعى، فنزل من الرباط بساحته، ونفض فيه أثواب سياحته، فإذا هو من أفاضل العجم ذو قدر منيف، يدعى بمحمد شريف، فبعد أن ألقى فيه عصى التسيار، وكان لا يألف منزلا كالقمر السيّار، استأذنه بعض المجاورين في القراءة عليه، وابتدئ في بعض العلوم الإلهية فكنت أسابقه إليه، فلما رأى مني ما رأى استخبر من هناك عني فأجبته ولم يكن غير الدمع سائلا ومجيبا، فعند ذلك اصطنع لي دهنا مسّدني به في حرّ الشمس ولفّني بلفافة من قرني إلى قدمي، حتى كدت أفقد عنده الحسّ، وتكرر ذلك منه مرارا من غير فاصل، فتمشت الحرارة الغريزية كالحميّا في المفاصل، فعندها شدّ من وثاقي، وفصدني في عضدي وساقي، فقمت بقدرة الواحد الأحد بنفسي لا بمعونة أحد، ودخلت المنزل على والدي فلم يتمالك سرورا، وانقلب إلى أهله مسرورا، وضمّني إلى صدره وسألني عن حالي فحدّثته بحقيقة ما جرى، فمشى من وقته إلى الأستاذ ودخل حجرته وشكر سعيه، وأجزل عطيته، فقبل منه شكره واستعفاه برّه، وقال: إنما فعلت لما رأيت منه من الهيئة الاستعدادية، لقبول ما يلقى إليه من العلوم الحقيقية، فابتدأت عليه بقراءة المنطق، ثم اتبعته بالرياضي ثم شرعت في الطبيعي، فلما أكملت اشرأبت نفسي لتعلم اللغة الفارسية فقال: يا بني إنها سهلة لكل أحد، ولكني أفيدك اللغة اليونانية، فإني لا أعلم الآن على وجه الأرض من يعلمها غيري، فأخذتها عنه وأنا الآن بحمد اللّه فيها كهو إذ ذاك، ثم ما برح أن سار يطوي المنازل لدياره، وانقطعت عني بعد ذاك سيّارة أخباره.
  ثم ساق رحلته وما جرى له وليس القصد إلّا إيراد طريقته في الإنشاء.