تعليق على الرسالة الحاكمة
  فإنَّ مسائلَ العِلْمِ العقليَّة كمعرفة الصانع وصفاته، ومسائل التوحيد والعدل عقلية ليس فيها إلَّا المناظرة فقط، وأَمَّا المسائلُ القطعيةُ الشرعيةُ أعني التي دليلُهَا الشرعُ الشريف لا العقل، فمرجِعُهَا: الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، والقياسُ.
  وقد أجمعت الأُمَّةُ - وفيها الآلُ - أَنَّ نَصْبَ الْحُكَّامِ للحُكْمِ، وفَصْلِ الشِّجَارِ بين الناس في القطعيِّ والظنيِّ، وكم في المعاملات من قطعيٍّ كآي المواريث وغيرها، ولو كان كما ذكره القاضي الصفي إنَّما هو في الظني لا القطعي، للزم كلُّ حاكمٍ أَنْ ينظرَ في القضايا فما وَجَدَهُ قطعيًّا خَلَّى المتشاجرين عَلَى فتنتهم وهَوَاهم، مثلاً لا يَحْكُمُ في ميراث الزوجة، ولا في ميراث الزوج ولا الأولاد ولا الإخوة لأم، وما ثَبَتَ في الفرائض بالقطع من كتابٍ وسنَّة، وهذا لا يقولُ به أَحَدٌ من العلماء ولا غيرهم، إلَّا أَنَّه يَحْكُمُ فيما قَدِمَ عليه من الخصومات قطعيها وظنيها، فإن كان ظنيًّا صَارَ مَا حَكَمَ به في الظني قطعيًّا يَنْفُذُ ظاهرًا لا باطنًا، ولو كان خلاف مذهب الخصم، وأَمَّا القطعي فذاك حُكْمُهُ في نفوذه الحكم به ظاهرًا وباطنًا، ولا ينقض حكمه العلمي فقط، فعرفتَ هذا القولَ وخَرْقَهُ للإجماع.
  ولنذكر الدليلَ عَلَى ثبوت التحاكمِ في هذه المسألة، وهي معارضةُ الإمامِ أو الخروج عن بيعته بعد صحتها وغيرها، وأَنَّ المحاكمةَ طريقٌ لأهلِ الشريعة الغَرَّاء، وإجماعُ الأُمَّةِ أَنَّ الحاكمَ والإمامَ لا يحكم لنفسه، ولا يرد عند الاختلاف إلى الهوى، ويتبع كلّ أَحَدٍ هوى نفسه، وأَما شرع نصب الأَئِمَّةِ والحكام لفصل الخصومات، ودفع المظالمات وردع المعتدين ويعين المظلومين.
  فأوَّلًا في خصوص محل النزاع: محاكمة الوصي أمير المؤمنين، ومعلوم أَنَّه الإمامُ قطعًا عند الموالف والمخالف، والحال أَنَّ إمامتَهُ قطعية في تلك الحال، وكتابُ الله كله له، ولم يفعلها معاوية اللعين إلَّا خديعة، ونَشَرَ المصاحف فَبَيَّنَ أميرُ المؤمنين لأصحابه ذلك ولم يَرُدَّ المحاكمة، بل قَبِلَهَا، بشرط أَنْ يَحْكُمَ الحكمان بكتاب الله، واشترط أَنْ يكون الحكمُ مَرضيًّا وهو عبد الله بن العَبَّاس جَنْبَ الْخَدَّاع الْمَكَّار [عَمْرو بن العاص]، فَأَبَى الخوارجُ، وقالوا: أبا موسى،