مجمع الفوائد المشتمل على بغية الرائد وضالة الناشد،

مجد الدين بن محمد المؤيدي (المتوفى: 1428 هـ)

[الكلام في حديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، والكلام على زيارة القبور]

صفحة 459 - الجزء 1

  أَوَّلاً: إِنَّ الْخَبَرَ مُحْتَمِلٌ لِلْنَّفْيِ كَمَا سَبَقَ لَكَ، بَلْ هُوَ الرِّوَايَةُ الظَّاهِرَةُ - بِضَمِّ الدَّالِ -، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ أَصْلًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِيهِ: الْمُبَالَغَة، فَهْوَ مِنَ الْحَصْرِ الادِّعَائِيِّ، فَكَأَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ الْمَسَاجِدِ كَلَا شَدّ، فَيَكُونُ لِنَفْيِ كَمَالِهِ فِي الفَضِيلَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

  وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ؛ لِمَا سَيَأْتِي.

  ثَانِيًا: وَأَنَّهُ وَإِنْ فُرِضَ احْتِمَالُهُ لِلْنَّهْيِ، فَلَا اسْتِدْلَالَ بِمُحْتَمَل.

  ثَالِثًا: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِلْنَّهْيِ فَهْوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى شَيءٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا إِلى الثَّلَاثَةِ، لَا أَنَّهَا لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ عَلَى الإِطْلَاقِ وَالعُمُومِ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ لِمَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى الْجِهَادِ، وَإِلَى الْهِجْرَةِ وُجُوبًا، وَإِلَى غَيْرِهِمَا جَوَازًا، هَذَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرُوَرَة.

  وَانْظُرْ إِلَى تَمْثِيلِهِ بِقَوْلِهِ: «كَزِيَارَةِ الصَّالِحِينَ»، إِلَى آخِرِهِ.

  قُلْتُ: مَا هُوَ الْمُخَصِّصُ لِمَا ذُكِرَ، وَأَنْ يَكُونَ لِقَصْدٍ وَلِقَصْدٍ، وَالْحَدِيثُ يُفِيدُ العُمُومَ، وَالأَخْبَارُ الوَارِدَةُ فِي الْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ عَلَى زِيَارَةِ الرَّسُولِ ÷، وَزِيَارَةِ الصَّالِحِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ - وَإِنْ أَنْكَرَهَا بَعْضُ الْمُنْكِرِينَ -، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا فِعْلُهُ ÷ فِي زِيَارَةِ أَهْلِ البَقِيعِ، وَأَهْلِ أُحُدٍ، وَتَعْلِيمُهُ ÷ لِلزِّيَارَةِ الْمُخَرَّجَةِ فِي كُتُبِ الْعِتْرَةِ، وَصِحَاحِ العَامَّةِ، وَقَوْلُهُ ÷ فِي القُبُورِ: «أَلَا فَزُورُوهَا»، الْخَبَرَ الصَّحِيحَ بِالإِجْمَاعِ.

  وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَزْعُمُ كَرَاهِيَةَ التَّصْرِيحِ بِزِيَارَةِ القَبْرِ مَعَ وُرُودِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي الأَلْفَاظِ النَّبَوِيَّةِ، كَهَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ يَصْلُحُ لِصَرْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ الآحَادِيِّ عَنْ ظَاهِرِهِ لَوْ كَانَ لَهُ ظَاهِرٌ، وَيَنْهَضُ لِتَأْوِيلِهِ.

  وَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَمْثَالِ هَذَا العَالِمِ النَّظَّارِ، وَلَكِنْ:

  لِهَوَى النُّفُوسِ سَرِيرَةٌ لَا تُعْلَمُ

  وَاللَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.