فتاوى وبحوث فقهية
  لأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْجَمْعُ، وَمَتَى ثَبَتَ فَقَدْ بَطَلَ القَوْلُ بِوُجُوبِ التَّوْقِيتِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَمْعُ تَقْدِيمًا أَمْ تَأْخِيرًا.
  وَأَمَّا أَنَّهُ أَخَّرَ الأُولَى، وَقَدَّمَ الأُخْرَى، فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ.
  وَلَا يَلْزَمُ ظَنُّ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَلَمْ نُتَعَبَّدْ بِظَنِّهِ(١)، وَمُجَرَّدُ الاحْتِمَالِ لَا يُؤَثِّرُ.
  وَأَيْضًا: الْجَمْعُ فِي الشَّرْعِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَالْجَمْعُ الصُّورِيُّ كُلُّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، وَلَيْسَ إِلَّا جَمْعًا لُغَوِيًّا، وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ.
  فَيُقَالُ: خَبَرُ التَّوْقِيتِ، وَاسْتِمْرَارُ فِعْلِ الرَّسُولِ ÷ يَدُلَّانِ عَلَى الأَفْضَلِيَّةِ، وَخَبَرُ الْجَمْعِ فِي الْمَدِينَةِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَفِي ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الأَدِلَّةِ(٢).
(١) قد تقدم استيفاء البحث في هذا في الكلام مع ابن الأمير في (مسألة الجمع بين الصلاتين).
(٢) روى مسلم برقم (١٦٣٦)، واللفظ له، وأحمد بن حنبل (٣/ ٤٢)، رقم (٢٢٦٩)، ط: (دار الحديث) بإسنادهما عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمًا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَبَدَتِ النُّجُومُ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، لَا يَفْتُرُ، وَلَا يَنْثَنِي: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتُعَلِّمُنِي بِالسُّنَّةِ؟ لَا أُمَّ لَكَ، ثُمَّ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ÷ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ». قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ: فَحَاكَ فِي صَدْرِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأَتَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَسَأَلْتُهُ فَصَدَّقَ مَقَالَتَهُ. ورواه مسلم أيضًا برقم (١٦٣٧)، بإسناده عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّلَاةَ، فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: الصَّلَاةَ، فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: الصَّلَاةَ، فَسَكَتَ: ثُمَّ قَالَ: «لَا أُمَّ لَكَ أَتُعَلِّمُنَا بِالصَّلَاةِ، وَكُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ÷». قال النووي في (شرح صحيح مسلم) (٢/ ١٨٥): «وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى تَأْخِيرِ الْأُولَى إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَصَلَّاهَا فِيهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا دَخَلَتِ الثَّانِيَةُ فَصَلَّاهَا، فَصَارَتْ صَلَاتُهُ صُورَةَ جَمْعٍ. وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مُخَالَفَةً لَا تُحْتَمَلُ، وَفِعْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حِينَ خَطَبَ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْحَدِيثِ لِتَصْوِيبِ فِعْلِهِ، وَتَصْدِيقُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ صَرِيحٌ فِي رَدِّ هَذَا التَّأْوِيلِ». إلى أن قال: «وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ لِمَنْ لَا يَتَّخِذُهُ عَادَةً، وَهْوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَأَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ، وَالشَّاشِيُّ الْكَبِيرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَيُؤَيِّدُهُ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَادَ أَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ، فَلَمْ يُعَلِّلْهُ بِمَرَضٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ». وقال ابن حجر في (الفتح) (٢/ ٣٠): «فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ لِلْخَوفِ أَو السَّفَرِ أَو الْمَطَرِ»، وقال: «وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ التَّعْلِيلِ بِنَفِي الْحَرَجِ ظَاهِرٌ فِي مُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَلَفْظُهُ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ÷ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَنَعْتُ هَذَا لِئلا تُحْرَجَ أُمَّتِي»، وَإِرَادَةُ نَفْيِ الْحَرَجِ يَقْدَحُ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْجَمْعِ الصُّوْرِيِّ؛ لأَنَّ القَصْدَ إِلَيْهِ لَا يَخْلُو عَنْ حَرَجٍ».