فتاوى وبحوث فقهية
  قَوْلِهِ: (يُرِيدُ وَلَا يُضْمِرُ، يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ، لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ، وَلَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ(١)).
  وَلِذَلِكَ أَطْبَقَتِ الأَئِمَّةُ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى أَنَّ صِفَاتَ اللَّهِ ذَاتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّا لاَ نُثْبِتُ أَشْيَاءَ غَيْرَ الذَّاتِ، وَعَلَى أَنَّ الإِرَادَةَ نَفْسُ الْمُرَادِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّا لَا نُثْبِتُ شَيْئًا غَيْرَ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ صَادِرَةٌ بِإِحْكَامٍ، لَا كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسِي وَالسَّاهِي، وَصَاحِبُ الْمَنَامِ.
  فَإِنْ أَرَدْتَ تَطْبِيقَهُ عَلَى قَوَاعِدِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَ صَاحِبِ الاِحْتِرَازِ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَانِ(٢)، وَإِنْ أَكْثَرْنَا الإِطْنَابَ أَوِ الإِيجَاز؛ إِذْ شَرْطُ الْحَقِيقَةِ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلاصْطِلَاحِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ، وَالْمَجَازُ غَيْرُ ذَلِكَ.
(١) «يريد أنه من جملة أفعاله فعله بالداعية، وأنشأه على بعث الحكمة وقانون الإتقان والمصلحة.
(وَمَثَّلَهُ، ولم يكن من قبل ذلك كائنًا): هذا بعينه إشارة إلى هَذَيَانِ الأشعرية من أنَّ كلام الله صفةٌ حقيقيةٌ قائمةٌ بذاته، وأنها غير حرف ولا صوت، وأنها حاصلة فيما لا أول له، وأنها قديمة مع ذاته، فلهذا قال بهذه المقالة يشير بها إلى حدوثه من أوجه: أما أولًا: فقوله: إنَّه كلامه، والكلام ما فعله المتكلم. وأما ثانيًا: فقوله: بأنه فعله، وهذا تصريح بحدوثه. وأما ثالثًا: فقوله: إنه أنشأه. وأما رابعًا: فقوله: لم يكن من قبل كائنًا، ولو كان قديمًا لكان كائنًا في الأزل.
فهذا كله يدفع وجوههم، ويدرأ به في نحورهم عن شنيع هذه المقالة، وقبيح هذه الجهالة.
(ولوكان قديمًا لكان إلهًا ثانيًا): ثم أخذ في إبطاله على أسلوب آخر على جهة الإلزام فقال: لو كان قديمًا - يريد كلام الله تعالى - لكان إلهًا ثانيًا، وهذه منه إشارة إلى خلاصة ما يقوله المتكلمون من العَدْلِيَّةِ في إبطال مذهبهم من أنَّ القِدَمَ إن كان أمراً زائداً على الذات فهو وصفٌ خاصٌّ، والاشتراك فيه يوجب الاشتراك في الأوصاف الإلهية فيلزم كونه إلهًا، وإن كان هو نفس حقيقة الذات فقد شارك اللهَ في نفس حقيقته، فيلزم من هذا كله أن يكون إلهًا. فأَهْوِنْ بمذهب هذه خلاصته، وأَبْعِدْ باعتقاد هذا نخبه ونقاوته». انتهى من (الديباج الوضي).
(٢) قوله: لأن الحقيقتين مختلفتان. قال والدنا الإمام الحجّة/ مجدالدين بن محمد المؤيدي #: هذا إنما يَرِدُ إذا قلنا بجمع حقيقة العالم مَثَلاً في الشاهد والغائب في حقيقة واحدة، أمَّا إذا اسْتُعْمِلَتْ اللفظة في غيرِ ما وُضِعَتْ له كاسْتِعْمَالِ اليَدِ والوَجْهِ والجَنْبِ ونَحْوِها في حقِّ الله سبحانه وتعالى، فلا مانع من المجَازِ، كما هو مَعْلُومٌ، إذْ تِلْكَ الحقَائِقُ اللغوِيَّةُ لا تجوزُ على الله تعالى، فلا مَجَالَ من جَعْلِها مَجَازَاتٍ. وأمَّا قوله: لا يجوزُ بِغَيْرِ إذْنٍ. يقَالُ: وُرُودُها في الكتابِ والسنَّة إذْنٌ شَرْعيٌّ، والمقامُ يحْتَاجُ إلى بَحْثٍ وتَفْصِيْلٍ، وهو مُسْتَوْفى في مَحَلِّهِ من الأُصُوْلِ.