[185] الخليفة الواثق بالله، أبو جعفر، هارون
  كرب، وكتب رقعة علّقها في أذن أحمد فيها: هذا رأس الكافر أحمد بن نصر الخزاعي أمره أمير المؤمنين الواثق أن يتوب عن الجبر والتشبيه والقول بقدم القرآن، فأبى واستكبر فقتله أمير المؤمنين بيده احتسابا، وعجّل بروحه إلى عذاب السعير.
  وروى أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي النديم، عن أبيه، قال: صرت إلى سرّ من رأى بعد قدومي من الحجّ، فدخلت إلى الواثق فقال لي: بأيّ شيء أطرفتني من أحاديث العرب وأشعارهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين جلس إليّ أعرابي في بعض المنازل، فحادثني، فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان منظرا وحديثا وظرفا وأدبا، فاستنشدته فأنشدني:
  سقى العلم الفرد الذي في ظلاله ... غزالان مكحولان مؤتلفان
  إذا أمنا التفّا بجيدي تواصل ... وطرفاهما للرّيب مسترقان(١)
  أرعتهما ختلا فلم أستطعهما ... ورميا ففاتاني وقد رمياني
  ثم تنفّس نفسا ظننت أنه قد قطع حيازيمه(٢) فقلت: مالك بأبي أنت وأمّي؟
  قال: وراء هذين الجبلين شجن، وقد حيل بيني وبين المرور بهذه الجهات وهدر دمي، فقلت له: زدني مما قلت فأنشدني:
  إذا ما وردت الماء في بعض أهله ... حضور فعرّض بي كأنّك مازح
  فإن سألت عنّي حضور فقل لها ... به غبر من دائه وهو صالح
  فأمرني الواثق فكتبت الشعرين له، فلمّا كان بعد أيام دعاني وقد عمل فيهما لحنين في غاية الحسن فغنّاهما بمحضري، فاستحسنتهما جدا وطربت لهما طربا تحقّقه منّي، فأمر لي بمائة ألف درهم، وقال لي: هل قضيت حق هديتك؟
  فقلت: نعم يا أمير المؤمنين وأطال اللّه بقاك، وتمّم نعمته عليك ولا أفقدتها منك وبك، فقال: ولكنك لم تقض حق جليسك الأعرابي ولا سألتني معونته على أمره وقد سبقت مسألتك، وكتبت بخبره إلى صاحب الحجاز وأمرته بإحضاره، وخطبت المرأة له، وحمل صداقها من مالي، فقبّلت يده، وقلت: لك السبق إلى
(١) الأستراق: اختلاس النظر والسمع، ومثله التسرق والمسارقة.
(٢) الحيازيم: ضلوع الفؤاد.