[فصل: في الطرق التي يعرف بها تخصيص العام]
  وأما من جهة النقل: فهو أنه لو لم يجز لم يقع(١) في كتاب الله تعالى، والتالي باطل، فالمقدم مثله: أما الملازمة فظاهرة، وأما استحالة التالي فلأنه قد ورد فيه (كآيتي العدتين(٢)) عدة الحامل وعدة المطلقة، فإن قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}(٣) [الطلاق: ٤] مخصص لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
(قوله): [فإن قوله] تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}[الطلاق: ٤]» هذه الآية شاملة للمطلقات؛ لأن أولها: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ ...}[الطلاق: ٤]، فخصص بها عموم: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة: ٢٢٨]، وهذا مبني على أن المخصص لا يلزم أن يكون خاصاً من كل وجه، فإن «أولات الأحمال» أيضاً عام، نعم يكون خاصاً بالنسبة إلى العام بمعنى كونه متناولا لبعض أفراده لا كلها. واعلم أن الاحتجاج بالآيتين أما على المانعين للتخصيص مطلقاً فظاهر، وأما على القائلين بالتفصيل بأنه إن علم التاريخ فالخاص إن كان متأخراً خصص العام، وإن كان متقدماً فلا، بل يكون العام ناسخاً للخاص، وإن جهل التاريخ تساقطا - فإنما يتم إذا كان آية[١] سورة البقرة[٢] بعد آية الحمل في النزول، أشار إلى ما ذكرنا في الحواشي.
(١) لكنه واقع، كذا في بعض النسخ، وضرب عليه لأنه لم يثبت في نسخ المؤلف؛ لأن قوله: والتالي باطل مغن عنها، وكذا قوله: في كتاب الله مستغنى عنه؛ لأن الكلام فيه. (سحولي).
(٢) فإن قيل: كل من هاتين الآيتين أعم من وجه وأخص من وجه، وسيأتي للمؤلف # إن ما كان كذلك فليس تخصيص عموم أحدهما لعموم الآخر بأولى من العكس، فيطلب الترجيح بينهما، كأن يتضمن أحدهما حكماً شرعياً دون الآخر، أو تشتهر روايته، أو يعمل به الأكثر، أو نحو ذلك مما ذكره # فيما سيأتي، فكيف تكون آية الحمل مخصصة لآية الطلاق؟ فلعل الجواب والله أعلم أنه ذكر النجري في شرح الآيات أن عدة المطلقة الحامل بالوضع إجماعاً، فيكون الإجماع مرجحاً لكون آية الحمل مخصصة لآية الطلاق. بقي أن يقال: لم لا يكون المخصص هو الإجماع؟ وأنه لا يستقيم قول المؤلف. قلنا: قد قيل: إنه وقع العلم ... إلخ، وأن يقال: إن الخاص مع التراخي ناسخ، فلا يستقيم الاستدلال بالآيتين إلا إذا جهل المتقدم منهما أو علم تأخر الخاص من دون تراخ. نعم، لو كان الإجماع على تخصيص الآية بالآية اندفعت الإشكالات، ولو أجيب بأن آية الحمل في المطلقات فقط كما هو ظاهر سياق القرآن فتكون آية الحمل أخص مطلقاً اندفع السؤال، لكن يبقى الإشكال بأن الخاص مع التراخي ... إلخ، فينظر، والله أعلم، فالأولى الاقتصار في الاحتجاج على جهة العقل، والله أعلم.
(٣) واعلم أن مقتضى تفصيل الحنفية وبعض أدلة الشافعية أن المخصص يكون خاصاً البتة، وليس بلازم؛ فإن «أولات الأحمال» أيضاً عام. نعم، يكون خاصاً بمعنى كونه متناولاً لبعض ما يتناوله العام. (من شرح المنهاج لمحمد بن محمد مدرس الكاملية).
[١] لعل في العبارة قلب؛ إذ المراد أنهم لا يلتزمون ما دلت عليه الآية من التخصيص إلا مع تأخر المخصص، وهو هنا آية الحمل، بأن تكون بعد آية البقرة[٠] والله أعلم. (حسن ح).
[٠] ذكر سعد الدين مثل ما ذكره هذا المحشي، قال في الجواهر: والصواب أن يقال: إنما يتم لو كانت آية التوفي بعد آية الحمل؛ لأن آية الحمل خاص وآية التوفي عام، فلو كانت آية الحمل متأخرة عن آية التوفي وكانت مخصصة للعام المتقدم لم يكن حجة على القائلين بالتفصيل؛ لأنهم قائلون بجواز تخصيص الخاص المتأخر للعام المتقدم، وإنما يكون حجة على القائلين بالتفصيل إذا ثبت تخصيص العام المتأخر بالخاص المتقدم، فظهر أن الاحتجاج بالآيتين إنما يقوم على القائلين بالتفصيل إذا كانت آية التوفي بعد آية الحمل في النزول لا بالعكس.
[٢] هي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة: ٢٢٨].