(الباب الأول في الأخبار)
= وأخرج الطبراني في (الكبير) عن ثَوبان عن النبيِّ ÷ أنَّه قال: «اعْرِضُوا حَدِيثِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَهُ فَهْوَ مِنِّي وَأَنَا قُلْتُهُ». ذكره السيوطي في (الجامع الصغير). وروى أيضاً في (الكبير) عن عبدالله بن عُمَر عن النبيِّ ÷ أَنَّه قال: «سُئِلَتِ اليَهودُ عَنْ مُوسَى فَأَكْثَرُوا فِيهِ، وَزَادُوا وَنَقَّصُوا حَتَّى كَفَرُوا، وَسُئِلَتِ النَّصَارَى عَنْ عِيسَى فَأَكْثَرُوا فِيهِ، وَزَادُوا وَنَقَّصُوا حَتَّى كَفَرُوا، وَإنَّه سَيَفْشو عَنِّي أَحَادِيثُ فَمَا أَتَاكُمْ مِنْ حَدِيثِي فَاقْرَؤُوا كِتَابَ اللَّهِ وَاعْتِبِرُوهُ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَا لم يُوَافِقْ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ». قلت: أراد بما لم يوافق مع المخالفة كما سيأتي. وذكر قاضي القضاة ما لفظه: «وقد روي عن النبيِّ ÷: «سَيَأْتِيكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ مُخْتَلِفٌ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي فَهْوَ مِنِّي، وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِذَلِكَ فَلَيْسَ مِنِّي»».
وَهْوَ مِمَّا اعْتَمَدَهُ سَادَاتُ الأَئِمَّةِ الْكِرَام، كما نَقَلَهُ عنهم الإمامُ الذي أَحْيَا اللَّهُ تعالى بِعِلْمِهِ مَعَالِمَ الإسلام، وأَفْنَى بسيفِهِ طغاةَ الطّغَام، أميرُ المؤمنين المنصورُ بالله أبو محمدٍ القاسمُ بْنُ محمدٍ رضوان الله عليهم المتوفَّى (سنة تسع وعشرين وألف) في كتابه (الاعتصام).
ولَمَّا لم يَتَّضِحْ لبعضهم المعنى فيه، لم يُعَرِّجْ عليه، ولم يَرْفَعْ رأسًا إليه، والْمَرءُ عَدُو مَا جَهِلَهُ، وإلَّا فعند التحقيق لمعناه: لا يُتَصَوَّرُ أنْ يَرُدَّهُ ذو عِلْمٍ ولا يأباه.
وقد أَزَاحَ عنه اللِّثَام، وأَرَاحَ عن التَّجَشُّمَاتِ لِطَامِحَاتِ الأَوْهام، ونَزَّلَهُ عَلَى ما يُطَابِقُ قولَ الرسولِ ÷، ويوافِقُ عَمَلَ الأَئِمَّةِ حُمَاةِ المعقولِ والمنقول: الإمامُ الأعظمُ، المجدِّدُ لِمَا انْدَرَسَ مِنْ رُسومِ الحقِّ الأَقوم، أميرُ المؤمنين، المهدي لدين الله ربِّ العالمين، أبو القاسمِ محمدُ بْنُ القاسمِ الحُسَينيُّ رضوان الله عليهم، المتوفَّى (سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف). قال ¥: «أَمَّا حَدِيْثُ الْعَرْضِ، فَقَدْ رَوَاهُ أَئِمَّتُنَا $ الْجِلَّةُ مِنْهُمْ وَصَحَّحَوهُ، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى صِحَّتِهِ بِمَا أَفَادَهُ مَتْنُهُ؛ لِأنَّه قَالَ: «سَيُكْذَبُ عَلَيَّ مِنْ بَعْدِي كَمَا كُذِبَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي»» - ورَوى خَبَرَ العَرْضِ السَّابق - إلى أن قال: «قَالوا: فَلاَ يَخْلو إمَّا أَنْ يَكونَ صَحِيْحًا أَوْ لا، إنْ كَانَ الأَوَّلُ فَهو الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الثاني لَزِمَ مِنْهُ صِحَّتُهُ؛ لأَنَّهُ قَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ÷.
وأمَّا كَيْفِيَّةُ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْمَعْنَى الْصَّحِيْحُ الظَّاهِرُ فِيْهِ هُو: أَنَّ الْكِتَابَ وَالْسُّنَّةَ لا يَتخَالَفَانِ، فَإنْ تَخَالَفَا رُدَّتِ الْسُّنَّةُ إليه؛ لأنَّه الثَّقَلُ الأَكْبَرُ؛ ولأَنَّ السُّنَّة بَيَانٌ لَهُ. وإنْ خَالَفَتِ الْسُّنَّةُ الآحَادِيَّةُ الْكِتَابَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ رُدَّتْ، وَحُكِمَ بأَنَّ الْحَدِيْثَ مَكْذُوبٌ - أَي مَوْضُوعٌ -. وقَد اخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ العَرْضِ عَلَى أَنْحَاء. فَقِيْلَ: لاَ بُدَّ مِنْ عَرْضِ كُلِّ حَدِيْثٍ، وَهَذَا يَصْعُبُ؛ إِذْ بَعْضُ الأَحْكَامِ أُخِذَتْ مِن الْسُّنَّة فَقَط. وَقِيْلَ: الْمُرَادُ: الْعَرْضُ الْجُمْلِيّ وَمَعْنَى فَلا يَأبَاهُ الْكِتَابُ وَيُوْجَدُ لَهُ فِيْهِ مَاسَّة. وَقِيْلَ: بَلْ يُعْرَضُ وَلو عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر ٧]. وَحِيْنَئِذٍ فَلا يُشْتَرَطُ إلَّا صِحَّةُ كَوْنِهِ عَنِ الرَّسُولِ ÷ مَعَ عَدَمِ مُعَارَضَتِهِ لِلْقَاطِعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وأَمْكَنَ الْجَمْعُ فِي الْظَّنِّيَّاتِ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ مَا فِي الْسُّنَّة عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: [الأول]: مَا أَمْكَنَ عَرْضُهُ عَلَى الْكِتَابِ تَفْصِيْلًا، وَهَذا لاَ إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ». قلتُ: وَمُرَادُ الإمامِ # أنَّه لا إشكالَ في صِحَّةِ العَمَلِ بموجَبِهِ؛ لأنَّه قد عُرِفَ حُكْمُهُ من الكِتَابِ، ولم يَكُنْ إلَّا مؤكِّدًا له إنْ صحَّ، فأمَّا الحديثُ فلا ثقةَ به إلَّا بِصِحَّةِ طَرِيقِهِ. نعم! ظاهرُ الخَبَرِ أنَّ مَا وَافَقَ الكتابَ فهو صحيحٌ من غير نَظَرٍ في طريقه؛ لقوله: «فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَهْوَ مِنِّي وَأَنَا قُلْتُهُ»، لكنَّهُ مخصوصٌ بالأدلةِ الموجِبَةِ للنَّظَر في طُرُق الأَخبارِ مثل قولِهِ ø: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}[هود ١١٣]، وقوله تعالى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات ٦]. واشتراطُ الضَّبْطِ والعَدَالَةِ في النَّقَلَة: أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عليه في الجملَة.
ويحتمل أنْ تُخَصَّصَ تلك الأدلة بعموم ذلك الخبر، فيكون: مَنْ أَخْبَرَ بِمَا يوافق الكتاب صادقًا - وإن كان كافرًا أو فاسقًا -، ويكون إعلامًا من الله تعالى أنَّه لا يُخْبَرُ بما يوافق الكتابَ إلَّا وهو حَقٌّ وصِدْقٌ وصَوَابٌ. فهذانِ عُمومانِ تَعَارَضَا، يُمْكِنُ الْجَمْعُ بينهما بِتَخْصِيْصِ أَحَدِهِمَا بالآخَر، فيُرْجَعُ فيهما إلى التَّرْجِيح، فنقول واللَّهُ أَعلم: إنَّ الاحتمالَ الآخِرَ مَرجوحٌ؛ لأنَّ الذي تُوجِبُهُ حِيَاطَةُ الدِّين، وتُلْزِمُهُ حمِايةُ سَوْحِ الْتَّثَبُّتِ وَسَرْحِ اليقين: تَرْكَ تلك العموماتِ =