[تعريف العلم]
= إلا واحد احتاجوا إلى إثبات القوى وتعددها لتعدد أفعالها الخمسة التي هي: إدراك المحسوسات، وإدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات، وحفظها والتصرف فيها. وذهب أهل الحق إلى نفيها، وأبطلوا هذا الأصل بما لا يسعه المقام، كيف ونحن نقول بأن جميع الممكنات مستندة إلى الله تعالى وتقدس، مع كونه منزهاً عن التركيب جل وعلا. ومبني أيضاً على أن العقول عندهم جواهر مجردة، والنفوس كذلك أيضاً، وتعلقها بالبدن إنما هو تعلق التصرف والتدبير، لا لكونها داخلة فيه بالجزئية أو الحلول، فلما ذهبوا إلى تجردها حكموا بأنها لا تدرك إلا الكليات؛ لاستحالة ارتسام ما له امتداد كالصور الجزئية في النفس؛ إذ لو كانت محلاً له لزم كونها منقسمة في الكم، وهو باطل عندهم لتجردها، فلذا أثبتوا القوى النفسانية لإدراك الجزئيات وحفظها، وجعلوها متعددة لتعدد أفعالها كما عرفت. وأجاب أهل الحق بعد تسليم كونها مجردة أن ارتسام ما له امتداد في النفس إنما يستحيل إذا كان حلوله كحلول الأعراض في محالها، وهو ممنوع؛ لأن حلول الأعراض سرياني وليس ارتسام الصور في النفس؛ فلذا ذهبوا إلى أن المدرك لجميع أصناف الإدراكات هو النفس الناطقة، فإنا نحكم بالكلي على الجزئي نحو: زيد إنسان، ونسلب الجزئي عن الجزئي نحو: زيد ليس بعمرو، والحاكم لا بد أن يدرك الطرفين والنسبة، وليس الحكم المذكور للقوة الوهمية ولا للحس المشترك ولا لغيرهما، فهو للقوة العاقلة. وأيضاً فإن النفس عندهم لما كانت مدبرة لبدن شخصي، وتدبير الشخصي من حيث هو ذلك الشخص يستحيل إلا بعد العلم به من حيث هو هو، فإذاً هي مدركة للبدن الجزئي، ولاستيفاء الحجج والشبه والاعتراضات محل آخر، وإنما المراد التنبيه على أن ما نسبه المؤلف إلى الحكماء مخالف لما عليه أهل الحق، وينبغي الإشارة إلى بعض ما ذكروه في القوى الباطنة؛ لأن المؤلف # قد لمح إليها بقوله: القوى الجسمانية، فاقتضى المقام ذلك، فنقول: هي عندهم خمس: الأولى: الحس المشترك، ومحله مقدم الدماغ، وهي القوة التي ترتسم فيها صور الجزئيات المحسوسة بالحواس الخمس الظاهرة التي هي كالجواسيس لها[١]، فتطالعها النفس ثمة فتدركها، ولما كانت هذه القوة آلة للنفس في إدراكها سميت مدركة. قالوا: ولولا هذه القوة لما أمكن الحكم بأن هذا الملموس هو هذا الملون وليس هذا الملون، فإن الحاكم بالنسبة لا بد أن يحضره المحكوم عليه وبه، وليس شيء من القوى الظاهرة بهذه المثابة، فهو لقوة باطنة. ورد ما ذكروا بأن الحاكم هو العقل، وما ذكروه من استحالة ارتسام ما له امتداد في النفس ممنوع كما عرفت[٢]. الثانية من القوى الباطنة: الخيال، ومحله مؤخر البطن الأول من الدماغ، وهو يحفظ الصور المرتسمة في الحس المشترك، ولولا حفظه لها لامتنع أن يعرف إذا غاب المحسوس عن الحواس الظاهرة أنه الذي رؤي فيما سبق. الثالثة: الوهمية، وهي التي تدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالصور المحسوسة، كالعداوة الجزئية التي تدركها الشاة من الذئب فتهرب عنه، والمحبة الجزئية التي تدركها السخلة من أمها فتميل إليها، فإن هذه المعاني لا بد لها من قوة مدركة سوى الناطقة، ومحلها مقدم البطن[٣] الأول من مؤخر الدماغ. الرابعة: الحافظة للمعاني التي تدركها القوة الوهمية كالخزانة لها، ونسبتها إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك. الخامسة: القوة المتخيلة، وهي التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية المتنزعة منها، وتصرفها فيها بالتركيب تارة والتفصيل أخرى، مثل إنسان ذي رأسين وإنسان عديم الرأس، وحيوان نصفه إنسان ونصفه فرس. قالوا: هذا التصرف غير ثابت لسائر الحواس والقوى، فهو لقوة أخرى، وهذه القوة إذا استعملها العقل في مدركاته بضم بعضها إلى بعض أو فصله عنه سميت مفكرة، وإن استعملها الوهم سميت متخيلة، قالوا: ومحل هذه القوة وسط الدماغ، فهي بين البطن الأول وبين البطن الأخير؛ لتأخذ من المحسوسات التي في أحد جانبها، ومن المعاني الجزئية التي في الجانب الآخر، فتتصرف بالتركيب والتفصيل فيما بين البطنين. واستدلوا على محالها بالآفة، فإنه إذا تطرق آفة إلى محل من هذه المحال اختل فعل القوة المخصوصة به دون فعل غيرها. قالوا: ويستعان على ذلك بالتجارب الطبية. هذه مقالتهم، ولذكر شبههم الواهية وإبطالها محل آخر، مع أن أغلبها مقدمات خطابية لا تفيد المطلوب[٤].
[١] أي: للقوى الباطنة. (ح).
[٢] أي: في قوله: يحضره المحكوم عليه وبه. (ح).
[٣] ينظر فإنه مغاير لما في شرح المواقف فليطالع. (ح عن خط شيخه). لا مغايرة، فلفظ المواقف هكذا: فالحس المشترك في مقدمه، أي: الدماغ، والخيال في مؤخره، ومحل الوهمية والحافظة هو البطن الأخير منه، والوهمية في مقدمه والحافظة في مؤخره. اهـ فظهر أن مقدمه هو البطن الأول من مؤخر الدماغ، وهو الآخر بالنسبة إلى البطن الأول من الدماغ. (ح).
[٤] وهي لا تفيد سوى الظن كما عرفت. (ح).