فصل: في تعريف الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما وأحكامهما
  احتج القاضي أبو بكر ومتابعوه أولاً: بأنها لو نقلها الشارع إلى غير معانيها اللغوية لفهَّمها(١) المكلف؛ لأن الفهم شرط التكليف، ولو وقع التفهيم لنقل إلينا؛ لأنا مكلفون مثلهم، والنقل إما متواتر ولم يوجد، أو آحادي ولا يفيد العلم(٢).
  والجواب: أنها فهمت لهم ولنا بالترديد وبالقرائن(٣) كالأطفال يتعلمون
(١) أي: يفهم غير المعاني اللغوية من المعاني الشرعية. أقول: هاهنا نظر؛ لأنا مكلفون بالعمل بالمعاني المرادة من تلك الألفاظ، وكون الفهم شرط التكليف إنما يقتضي تفهيم تلك المعاني المرادة منها، وقد حصل ذلك بالبيان النبوي على ما تشهد به التفاسير؛ حيث يروى في تفسير الألفاظ المستعملة في غير المعاني اللغوية أحاديث كثيرة، ولا يقتضي تفهيم أن تلك الألفاظ منقولة إلى تلك المعاني أو موضوعة لها في عرف الشرع، وعلى هذا فقولهم: أو بالآحاد وأنها لا تفيد العلم والمسألة علمية بناء على أن مسائل الأصول يعتبر فيها القطع ولا يكتفى فيها بالظن.
قلنا: كون المراد من تلك الألفاظ هذه المعاني ليس من مسائل الأصول، بل المسألة الأصولية هاهنا أنها حقائق في تلك المعاني، والفرق بينهما ظاهر، وكذا قولهم: وإما التواتر ولم يوجد قطعاً وإلا لما وقع الخلاف فيه محل نظر؛ إذ الخلاف الواقع هو الخلاف في كونها حقائق، وهذا ليس مما يكلف به، إنما المكلف به كون المراد منها هذه المعاني، والخلاف لم يقع فيه. ثم لا يخفى أن هذا الدليل لو تم لدل على بقائها في المعاني اللغوية وعدم نقلها إلى المعاني الشرعية أصلاً على ما يدل عليه قول الشارح العضد: أي نقلها الشارع إلى غير معانيها اللغوية؛ إذ المراد بالنقل المعنى اللغوي العام الشامل للمجاز أيضاً؛ إذ تفهيم المكلف كما يلزم من المعاني الحقيقية يلزم من المعاني المجازية إذا كانت مرادة للشارع لا فرق بينهما، وهذا ما وعدناك ببيانه. (ميرزاجان).
(٢) وأيضاً فالعادة تقضي في مثله من أركان الدين بالتواتر. (عضد وفصول بدائع).
(٣) المعينة، وهي معلومة. (فصول بدائع).
(*) لعله يقال: فهمها لهم بالترديد يقتضي مدة تتسع لكثرة الترديد التي تنتج الفهم المذكور ولم ينقل أنه ÷ بقي مدة يردد خطابهم بهذه الشرعيات ولم يفهموا معنى ذلك الخطاب إلا بعد طول الترديد في المدة المذكورة، ولو وقع لنقل، وأما فهمها بالقرائن فقد منعتموه آنفاً وقلتم: لو وقعت لنقلت، فالتحويل عليها هاهنا مناقضة ظاهرة، والله أعلم.
(*) للباقلاني أن يقول: لو كان ثمة قرائن لنقلت كما قلتم فيما سبق، فإنه لا مرجح لثوت القرائن لمدعاكم دون مدعاه، فتأمل.