فصل: في تعريف الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما وأحكامهما
  وقد فرق بين المسألتين القاضي أبو بكر الباقلاني، فأجاز استعمال المشترك في معنييه حقيقة ومنع استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي.
  فإن قلت(١): قد قرر القوم أن النزاع في إرادة المعنيين معاً بحيث يكون كل
= وهذا هو المراد، وقال فيما سيأتي قريباً في جواب السؤال: بل المراد به الكل الإفرادي، أي: كل واحد منهما ... إلخ، وهذا الوهم إنما نشأ من إجمال المؤلف # للعبارة وتوضيح المقام أن التناول والدخول تحت المراد إما بمعنى تناول الكلي للجزئيات أو تناول الكل للأجزاء، وتناول الكل إما بمعنى تناول الكل المجموعي أو الكل الإفرادي، فالذي ليس من محل النزاع هو تناول الكلي للجزئيات وكذا تناول الكل المجموعي من حيث هو مجموع. وأما تناول الكل الإفرادي فهو من محل النزاع في هذه المسألة وفي المشترك حيث أريد كل واحد من معنييه أو معانيه بهذا المعنى كما عرفت؛ إذ يصير كل واحد مع هذا التناول مناطاً للحكم ومتعلقاً للنفي والإثبات، إلا أن اللفظ في هذه المسألة مع هذا التناول مجاز كما ذكره المؤلف #؛ لما عرفت من المنقول عن شرح المختصر، وفي المشترك حقيقة؛ إذ لم يخرج اللفظ مع هذا التناول عن الاستعمال فيما وضع له كما سبق ذلك، وهذا هو مناط الفرق الذي أشار إليه المؤلف بقوله: وقد يفرق ... إلخ، وهو الذي بنى عليه قوله: وعدم تفرعه على المشترك ظاهر، وذلك أن اللفظ مع إرادة الكل الإفرادي في المشترك حقيقة وفي هذه المسألة مجاز. وما ذكرنا من أن المعنى الثالث في هذه المسألة هو شمول الكل لأجزائه لا الكلي لجزئياته هو الذي أراده في شرح المختصر حيث قال ما لفظه: فإنه لم يرد ما وضع له بالوضع الأول، بل هو داخل في المراد حيث أريد المجموع مما وضع له أولاً وما لم يوضع له أولاً بوضع ثانٍ مجازي لهذا المعنى الثالث، أعني المجموع، وقد هجر الحقيقة والمجاز الأول وخرجا عن الإرادة بخصوصهما ودخلا تحت مراد ثالث. انتهى. ويدل على أن شارح المختصر أراد الكل الإفرادي أن صاحب الجواهر حمل قوله: بوضع ثان مجازي على أن المراد بوضع لمعنى مجازي شامل شمول الكل لأجزائه، قال: وهو المتنازع فيه. وأما السعد فإنه انضرب كلامه في الحواشي، فحمل أولاً قوله: بوضع ثان مجازي ... إلخ على إرادة شمول الكلي للجزئيات. واعترض بأن ذلك لا نزاع فيه؛ إذ النافون للصحة لا ينازعون في جواز إرادة معنى مجازي شامل ويسمونه عموم المجاز، مثل أن يراد بوضع القدم في قوله: لا أضع قدمي في دار فلان الدخول فيتناول الدخول حافياً وهو الحقيقة وناعلاً وراكباً. ثم اقتضى كلامه آخراً بأنه أراد شمول الكل للأجزاء، واستشكل تصحيح المجاز فيه، ورده في الجواهر بما سبق، ومن أراد الاستيفاء فليأخذه من موضعه، وإنما المراد توضيح كلام المؤلف # بإيراد ملخص ما ذكروه، فتأمله فالمقام من المضايق.
(قوله): «وقد فرق بين المسألتين القاضي أبو بكر الباقلاني» لأن الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له والمجاز فيما لم يوضع له، وهما متناقضان. وأجيب بأنه لا تنافي؛ لصحة ذلك باعتبارين، هكذا في شرح الجمع، قال فيه: لم يمنع القاضي استعماله في حقيقته ومجازه، وإنما منع حمله عليهما بغير قرينة. قال: ومن فوائد الخلاف قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}[الحج: ٧٧]، فمن حمله عليهما جعل الآية شاملة للواجب والمندوب، ومن منع ذلك خصها بالواجب بناء على أنه لا يراد المجاز مع الحقيقة.
(قوله): «فإن قلت: قد قرر القوم ... إلخ» هذا السؤال متفرع على قوله: وهذا هو المراد، فلو قدمه على قوله: وقد فرق بين المسألتين ... إلخ لكان أنسب.
(١) هذا السؤال اعترض به السعد كلام العضد الأول، أعني قوله: (أو يراد باللفظ معنى ثالث ... إلخ) ورده صاحب جواهر التحقيق بما أجيب به في هذا الكتاب. (من خط السيد صلاح الأخفش).