فصل: في حقيقة الحكم وأقسامه وما يتعلق بأقسامه من الأحكام
= عليه الشيء من حصول ما يتوقف عليه، وهذا مسلم، أعني أنه لا بد منه كما ذكره ابن الحاجب، وإنما النزاع في إيجابه وكونه مأموراً به شرعاً فأين دليله؟ فأشار المؤلف إلى تقرير الاستدلال بوجه يلزم منه إيجاب ما يتوقف عليه الشيء فقال: وتحقيق ذلك ... إلخ. وخلاصته: أن عدم إيجاب ما يتوقف عليه الشيء الواجب يقتضي عدم المنع من تركه، وهو مستلزم عدم المنع من ترك الشيء الواجب، فيجتمع النقيضان، أي: المنع من ترك ذلك الشيء وعدم المنع منه. لكن يرد عليه أن اللازم حينئذ هو إيجاب ما يتوقف عليه الشيء ولو بأمر آخر، والنزاع في إيجابه بالأمر المتعلق بذلك الشيء كما عرفت. وأيضاً يكون اللازم من هذا الاستدلال على مقتضى هذا التحقيق هو اجتماع النقيضين في كلام الشارع، بمعنى أنه يستلزم نقض الحتم، وهو لا يصدر من حكيم، لا التكليف بالمحال بحيث لا يمكن تأدية الشيء الواجب على وجهه بدون ما يتوقف عليه[١]، وذلك لأن التكليف بالمحال إنما يلزم من المنع عن فعل ما يتوقف عليه الشيء لا من عدم المنع عن تركه كما ذكره في القسطاس على قول الإمام المهدي #: لو لم يجب لكان الآمر كأنه قال: افعل كذا حتماً وأنت مخير في فعل ما لا يتم إلا به، وهذا يستلزم تكليف ما لا يطاق - حيث قال[٢]: قد يقال: ليس عدم إيجابه يستلزم تكليف ما لا يطاق، إنما يستلزمه المنع من فعل ما لا يتم إلا به فليتأمل. انتهى. فلما ذكرنا من الإيراد عدل المؤلف # إلى بيان الاستدلال بوجه آخر يلزم منه التكليف بالمحال المشار إليه في المتن بقوله: لا يمكن أن يتأدى الواجب ... إلخ، فقال: وقد يحقق بوجه آخر ... إلخ. وهذا التقرير هو حاصل ما ذكره في الجواهر ناقلاً عن الأصفهاني حيث قال: اعلم أن الفاضل الأصفهاني قال: الحق ما ذهب إليه الجمهور من أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب سواء كان ذلك شرطاً شرعياً أو غيره، بيانه: أن إيجاب الشيء مطلقاً إيجاب له على كل حال، فإن لم يكن مقتضياً لوجوب المقدمة وكان واجباً عليه حال عدم المقدمة لزم التكليف به حال عدمها، وهو محال. ثم اعترضه صاحب الجواهر[٣] بأن التكليف به حال عدم المقدمة إنما يستلزم لو كان عدم وجوب المقدمة يوجب عدمها، وهو ممنوع[٤]. وأجاب الأصفهاني بأن إيجاب الشيء مطلقاً يستلزم إيجابه في جميع الأحوال، ومن جملتها الحالة التي عدمت فيها المقدمة، فيلزم إيجابه حال عدمها، وهو تكليف بالمحال. قال صاحب الجواهر: وفيه نظر؛ لأن التكليف بالواجب حال عدم مقدمته مشترك الإلزام؛ لأنه لازم سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل به، أما على تقدير عدم الوجوب فظاهر، وأما على تقدير وجوبها فلأنه ذكر أن إيجاب الشيء مطلقاً يستلزم إيجابه في جميع الأحوال ومن جملتها الحالة التي عدمت فيها المقدمة، فيلزم إيجابه حال عدم المقدمة، وهو تكليف بالمحال. قال: فظهر أن التكليف بالمحال لازم على التقديرين[٥]، ثم قال: والحق أن المراد بالواجب المطلق ليس هو الواجب في جميع الأحوال، بل الواجب المطلق هو الذي لم يقيد إيجابه بما يتوقف عليه لا ما لم يقيد إيجابه بشيء أصلاً، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك[٦]. انتهى. وقد ذكر المؤلف # أيضاً تحقيق الواجب المطلق فيما سبق بمثل ما ذكره الجوهري هنا. إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك أن قول المؤلف في هذا الوجه الآخر: «لكان مكلفاً بفعله في حال عدم ما يتوقف عليه» مبني على تفسير المطلق[٧] بما يجب في جميع الأحوال، وهو غير ما اختاره فيما سبق، فلم يتم بما ذكره المرام، والله أعلم.
[١] الظاهر أن يقال: بدون إيجاب ما يتوقف عليه كما يشعر به كلام القسطاس الآتي، فتأمل. (شيخنا المغربي ح).
[٢] يعني في القسطاس. (ح).
[٣] لفظ الجواهر: فإن قلت: لا نسلم لزوم التكليف به حال عدم المقدمة، وإنما يلزم ذلك لو كان عدم وجوب المقدمة ... إلخ.
[٤] إذ عدم الوجوب لا يوجب العدم. (منه. ح).
[٥] فما هو جوابكم فهو جوابنا. (جواهر). وقوله: «ثم قال: والحق» عبارة الجواهر: والحل ... إلخ.
[٦] هذا الأول من الجوابين، ثم قال في الجواهر: وأما ثانياً فلأن عدم المقدمة شرعاً لا يستلزم جواز عدمها حتى يلزم جواز المحال؛ لأن انتفاء الوجوب الشرعي لا يستلزم انتفاء الوجوب العقلي. (جواهر).
[٧] ويمكن أن لا ينبني كلام المؤلف على هذا التفسير، بأن يقال: مراده أن عدم إيجاب ما يتوقف عليه الواجب يقتضي التخيير بين فعله وتركه، وحين نختار تركه يكون معدوماً، وحينئذ فوجوب الواجب بسبب كونه مطلقاً عن تقييد إيجابه بمقدمة كما عرفت لا لكونه واجباً في جميع الأحوال تكليف بالمحال، فظهر ابتناء كلامه على ما اختاره سابقاً وإن ورد عليه ما في القسطاس والجواهر من أن عدم الوجوب لا يوجب عدم المقدمة، والله أعلم. (حسن بن يحيى الكبسي عن خط السياغي).