هداية العقول إلى غاية السؤل في علم الأصول المعروف بـ (شرح الغاية)،

الحسين بن القاسم بن محمد (المتوفى: 1050 هـ)

(الباب الأول في الأخبار)

صفحة 236 - الجزء 2

  فعبر عن⁣(⁣١) هذا بذلك لأن المجنون لا افتراء له؛ إذ الافتراء هو الكذب عن عمد لا الكذب مطلقاً، يدل عليه استعمال العرب ونقل أئمة اللغة عنهم، والمجنون لا عمد له، فقوله: «أم به جنة» ليس قسيماً للكذب، بل لما هو أخص منه وهو الافتراء، فيكون هذا حصراً للكذب في نوعيه: الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد⁣(⁣٢).

  وأما استدلاله بما روي عن عائشة وقد سمعت بخبر رواه بعض الصحابة: «والله ما صدق ولا كذب» فمعارض بما روي عنها أيضاً أنها قالت: «فلان⁣(⁣٣) يكذب ولا يعلم أنه يكذب»، على أنه يحتمل أنها أرادت ولا كذب تعمداً تحسيناً للظن بالراوي؛ جمعاً بين الأدلة.


(قوله): «ما صدق ولا كذب» هكذا في شرح الجوهرة، والذي ذكره الإمام المهدي # وابن الحاجب: ما كذب ولكنه وهم، فدل على أن الوهم - وهو ما ليس عن اعتقاد - وإن خالف الواقع ليس بكذب.

(قوله): «فلان يكذب ولا يعلم أنه يكذب» قال في المنهاج: فسمت من لم يعلم أنه كاذب كاذباً، وهذا نص على خلاف مذهب الجاحظ.

(قوله): «ولا كذب تعمداً» فأطلقت عاماً وأرادت خاصاً، وذلك شايع، كذا في شرح المختصر. قال في المنهاج: وإنما حملنا كلامها على ذلك لقولها: فلان يكذب ولا يعلم أنه يكذب، فلا بد من الجمع بين كلاميها [لئلا يكذب أحدهما]⁣[⁣١] وهذا التأويل بجمع بين كلاميها صادقين كما ترى، وتأولنا هذا لاحتماله لهذا⁣[⁣٢] التأويل، بخلاف قولها: يكذب ولا يعلم أنه يكذب فإنه لا يحتمل خلاف ظاهره أصلا.


(١) من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم؛ لأن عدم الافتراء لازم للجنة.

(٢) ولو سلم أن الافتراء هو الكذب مطلقاً فالمعنى أقصد في هذا الكلام الغير المطابق للواقع فيكون كذباً أم لم يقصد فلا يكون خبراً لخلوه عن القصد والشعور المعتد به على ما هو حال كلام المجنون، فهو على الأول جزم بالكذب وحصر له في نوعيه العمد وغير العمد، وعلى الثاني حصر كلامه في الكذب وفيما ليس بخبر، وأياً ما كان فلا واسطة بينهما. (سعد الدين).

(٣) ومثل ذلك كثير، ومنه في حديث سلمة بن الأكوع وقد قال للنبي ÷: إن جماعة من الصحابة قالوا: بطل عمل عامر لما رجع سيفه على نفسه فقتله، فقال ÷: «كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين» أخرجه الشيخان. ومنه قوله ÷ لأبي سفيان وقد قال له: إن سعد بن عبادة قال: اليوم نستحل الكعبة: «كذب سعد بن عبادة، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة» رواه البخاري في حديث الفتح من رواية عروة بن الزبير. (من خط سيدي العلامة هاشم بن يحيى كثر الله فوائده ورضي عنه).


[١] ما بين المعقوفين من المنهاج.

[٢] في المطبوع: وتأولنا هذا الاحتمال هذا التأويل. والمثبت من المنهاج ونسخة.