(الباب الأول في الأخبار)
  وقد استدل بقوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ١٤}[المجادلة] على إبطال قول الجاحظ في الكذب؛ لأنه لو كان كما زعم لم يكن لقوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ ١٤} فائدة، بل يكون تكراراً صرفاً.
  وأما قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ١٨}[المجادلة]، فقد احتج به صاحب الجوهرة على إثبات المذهب الأول وإبطال ما عداه، متوهماً أن معنى قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أنهم معتقدون لصحة ما حلفوا عليه، وهو وَهْم كاذب؛ لأن المعنى أنهم يحلفون لله في الآخرة أنهم ما كانوا مشركين(١) كما يحلفون لكم في الدنيا أنهم منكم، ويحسبون أنهم على شيء من النفع
(قوله): «فقد احتج به صاحب الجوهرة على إثبات المذهب الأول وإبطال ما عداه» وذلك لأن مقتضى كلام النظام أنه صدق، ومقتضى كلام الجاحظ أنه واسطة، وقد حكم الله بكذبه.
(١) قال السيد العلامة صفي الدين أحمد بن محمد إسحاق | هنا بعد كلام ما لفظه: وما ذكره ابن الإمام من معنى الآية هو الذي في الكشاف والبيضاوي، إلا أنهما لم يمنعا من اعتقادهم صحة ما حلفوا عليه في وقت الاضطرار بالمعرفة، بل جعلا ذلك صحيحاً باعتبار شدة نفاقهم ومرونهم عليه حتى استمر ذلك معهم إلى وقت تصير المعارف فيه ضرورية، وأن الكشف عن الحقائق لقوة نفاقهم وصيرورته طبعاً في الحياة وبعد بعثهم لا يجديهم نفعاً، وحينئذ لا يتوجه على صاحب الجوهرة منع ابن الإمام # بأنه وهم كاذب. بقي هاهنا أبحاث ينبغي التنبيه عليها: أولها: أن الذهن الكليل الفاتر والفهم السقيم القاصر تبادر إليه من عبارة صاحب الكشاف أن مراده بالكاذبين هم المتصفون بهذه الصفة القبيحة، أعني رذيلة الكذب، وليس المراد أنهم هم الكاذبون فيما حلفوا عليه، بل المراد أن من صدر عنه الكذب في الدنيا والآخرة والحلف عليه هو البالغ في هذه الصفة الغاية القصوى، والله ولي التوفيق والهادي إلى سبيل التحقيق. وثانيها: ما ذكره صاحب الكشاف وتعرض له، وهو اختلاف العلماء في كذبهم في الآخرة، فقال بعضهم: القرآن ناطق بذلك نطقاً لا اشتباه ولا مرية فيه، كما ترى في هذه الآية وفي قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٢٣ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٢٤}[الأنعام]، وقال بعضهم: عند ذلك يختم على أفواههم، هذا ملخص ما تعرض له جار الله[١]. وثالثها: أن الخبر عند النحاة هو الجزء المتمم للفائدة، وهو مورد الصدق والكذب ومحل الحكم، =
[١] وفي حاشية ما لفظه: وهذا على القول بجواز الكذب في الآخرة، ومنعه أبو علي وأبو هاشم وغيرهم من المعتزلة، وتأولوا الآية بأنهم قد نسوا كفرهم لما شاهدوا أحوال القيامة وأهوالها، ويكون معناه أنهم كاذبون في الدنيا، ذكر معناه في تجريد الكشاف، فعلى هذا يمكن توجيه كلام صاحب الجوهرة من دون نكير فتأمل. (من خط سيدي العلامة عبدالقادر بن أحمد).